من كتاب اليهودية في العراء بين الوهم والحقيقة
الكنعانيون
محسن الخزندار
mohsen205@live.com
أثر الحضارة الكنعانية(العربية) على اليهود(الموسويون –العبريون)
في اللغة والثقافة والحضارة والتقاليد
أولاً :الشـعـوب السـاميـة
الساميون، إحدى السلالات الثلاث (وهذه السلالات هي: الساميون والحاميون الذين كانوا يقطنون السودان وشرقي إفريقية وشماليها حول وادي النيل، والآريون) التي انحدر منها الجنس الأبيض في العالم اليوم. ويرتبط الساميون بوحدة الأصل العنصري، وتشابه معتقداتهم الدينية وتقاليدهم الاجتماعية، وبوحدة لغاتهم التي تنحدر من أصل واحد. فإن كلاً منها جزء من اللغة السامية الأولى، اللغة التي لا يعرفها أحد اليوم. فجذر الأفعال في كل من هذه اللغات ثلاثي، ولها صيغتان: صيغة الماضي وصيغة المضارع، وتصاريف الأفعال فيها متشابهة.
وعائلة اللغات السامية تُعد من أكبر العائلات اللغوية بين لغات البشر، ومن فروعها اللغة الأكادية ( البابلية) والآشورية والآرامية والكنعانية والعبرانية والحبشية والعربية التي تعتبر أشد اللغات السامية تشابهاً باللغة السامية الأم.
وتختلف المجموعة اللغوية السامية عن غيرها من المجموعات اللغوية الأخرى. وأقربها إليها المجموعة الحامية.
وتعتبر جزيرة العرب الموطن الأصلي للجنس السامي، وذلك لأن معظم أراضيها قاحلة، فيضطر أهلها للرحيل عنها كلما ازداد عددهم، فيهاجرون إلى البلاد المجاورة التماساً للرزق وطلباً للعيش.
إن التنقل البطيء من الصحراء إلى الأراضي الخصبة طلباً لرزق وغيره حركة مستمرة لم يقف سيلها منذ أقدم الأزمنة حتى يومنا هذا. إلا أن هذه الهجرات تزداد أحياناً ويتعاظم أمرها حتى تصير موجة قوية جارفة تحمل معها العدد الضخم من القبائل البدوية، من الخليج المُفتقر إلى الهلال الخصيب. (يطلق اسم "الهلال الخصيب" على ما يعرف اليوم بالعراق وبلاد الشام. وسبب هذه التسمية هو أن القطرين المذكورين المعروفين بخصب أراضيهما يكونان نصف دائرة أو هلالاً، طرفه الغربي ينتهي في الجهة الشرقية الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط. وطرفه الشرقي ينتهي بخليج العرب. وسميت الصحراء القاحلة التي تتاخم الهلال وتدخل فيه بالخليج الفقر. ويبلغ عرض هذه الصحراء نحو 500 ميل:800 كم).
قال المؤرخ الإيطالي "كايتاني" عن جزيرة العرب: " لقد أخذت جزيرة العرب تتقهقر وتفقد رطوبتها واعتدال جوها وأسباب العيش فيها منذ أكثر من أربعة عشر ألف سنة، وبما أن هذا التقهقر كان بطيئاً جداً فإن تأثيره في حياة السكان لم يكن فجائياً، بل كان مطرداً تبعاً للقلة في الأمطار، وارتفاع حرارة الجو، على أن ازدحام السكان لم يكن هنالك كما هي الحال في البلاد المزدحمة الآهلة، وكان الناس يعيشون من صيد الأسماك ويسكنون متفرقين متباعدين.
ولذلك يمكن أن يقال إن سكان الجزيرة ظلوا على حياتهم هذه إلى أن أخذوا يشعرون بقلة الزاد والمحصول بسبب ندرة الأمطار فانصرفوا إلى تدجين الحيوانات البرية ليدفعوا عن أنفسهم غائلة الجوع. ولما اشتدت بهم الحالة ونفذ صبرهم من الفاقة والجوع والعطش ارتحلوا إلى بلاد أخصب تربة وأجود جواً وأكثر أمطاراً.
وهكذا بدأت أولى هجراتهم التي حدثت غير مرة. فإن الآثار التي استخرجت من جوف الأرض ما بين الفرات ودجلة تبرهن على أن أُولى الهجرات السامية قد بدأت بنحو خمسة آلاف من السنين من ميلاد المسيح، على أن هذه الاكتشافات يجب أن لا تنفي فكرة وقوع هجرات سامية أخرى قبل هذا التاريخ([1])".
وقد شرع الساميون، قبل العصر التاريخي ينزلون مصر حوالي عام 3500 ق.م. ويرجح أنهم دخلوا مصر عن طريق فلسطين فسيناء فالدلتا تم استقروا فيها بعد أن امتزجوا بسكانها الأصليين. ومنهما تكون " المصريون" الذين نعرفهم في التاريخ. فكانت هذه الموجة هي أقدم ما عرفنا من الموجات النازحة من بلاد العرب إلى مشارف الجزيرة – العراق والشام ومصر.
إن تأثير العرب الساميين هؤلاء لم يبق مقتصراً على المصريين، بل تجاوزهم إلى شعوب إفريقية، وعلى الأخص إلى شعوب أقطارها الشمالية والسودان والحبشة وغيرها.
وفي نهاية الألف الرابع أو أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، هجر الساميون البادية وأخذوا يقيمون في العراق. فنزل "الأكاديون –Akkadians" منهم في الجنوب والآشوريون في الشمال. وقبل عام 2500 ق.م. تعاظم أمر موجة سامية أخرى عرفت بالموجه" الآمورية – الكنعانية" . وهي الموجة التي اتخذت طريقها إلى بلاد الشام. فنزل الآموريون القسم الداخلي من تلك البلاد، ونزل الكنعانيون قسمة الساحلي وفلسطين. ونزح فريق من الآموريين في نحو عام 1900 ق.م.، إلى العراق وكونوا فيه سلالة بابل الأولى. ومنها ظهر حمورابي في نحو 1728-1686 ق.م. والراجح أن الهكسوس الذين نزلوا مصر وحكموها في القرن السابع عشر قبل الميلاد هم من الكنعانيين.
وبعد الموجة المذكورة بنحو ألف سنة تعرضت بلاد الشام لموجة سامية أخرى وهي الهجرة الآرامية، وفيها القبائل المؤابية والآدومية والعمُّونية. فحل الآراميون في شمالي سورية وأوساطها وأنشأوا فيها دولاً تجارية مهمة، منها دولة مدينة دمشق. ونزل المؤابيون والآدوميون والعمُّونيون جنوبي سورية، شمالي البحر الميت حتى العقبة.
واستوطنت في أواخر القرن الثامن قبل الميلادية قبيلة " كلدْي" الآرامية، جنوبي العراق، وقُدِّر لها أن تؤسس الامبراطورية الكلدانية وهي آخر امبراطورية ظهرت في العراق في العصور القديمة.
ومن الموجات السامية الموجة التي أتت بالأنباط إلى جنوبي الشام في نحو عام 500 قبل الميلاد، ثم هجرة اللَّخْميِّين والغساسنة إلى العراق والشام، وكانت آخر الموجات الكبرى موجة العرب المسلمين في القرن السابع للميلاد. وكان من نتائجها نزول قبائلها في جميع أراضي الهلال الخصيب وفي شمالي افريقية واسبانيا وفارس وبعض أنحاء آسيا الوسطى.
يتضح مما تقدم أن هؤلاء الساميين هم جميعاً طبقات متتابعة من العرب وإن اختلفت أسماؤهم وأن بلادهم جزيرة العرب، ظلت منذ العصور المتناهية في القدم خاصة بهم. وما دراستنا لتاريخهم إلا دراسة لتاريخ بعض الأقوام العربية البائدة. ويرى عدد من ثقات المؤرخين الأوروبيين أن العرب والساميين شيء واحد. وقال " اسبرنجر – Sprenger" إن جميع الساميين عرب.
وصفوة ما تقدم، إن العالم بحضاراته العظيمة المختلفة مدين لهذه الجزيرة العربية التي انتشر سكانها في الشام والعراق وإيران وآسيا الوسطى ومصر وليبيا وبلاد المغرب والحبشة والأندلس وغيرها. وأقاموا فيها أقدم الحضارات وأعرقها.
يتضح وفقاً للمكتشفات الأثرية في مصر والعراق أن الساميين هم أقدم الشعوب المعروفة على أرض فلسطين ، فمنذ الألف الرابع ق.م كان الساميون على شاطيء البحر المتوسط الشرقي .
لكننا لا نستطيع الاستنتاج أنهم كانوا أول السكان البدائيين في المنطقة ،ذلك بأن أقدم المحفوظات المصرية والبابلية تعود إلى سنة 3500 ق.م .
من الوجهة الدينية يعتبر الساميون في الأصل القبائل المتحدرة من سام ، الابن الأكبر لنوح عليه السلام.
واللفظة على الصعيد العلمي باتت لغوية فهي تشمل كل الشعوب التي تكلمت باللغات السامية: الآشورية البابلية (الأكادية) ، والكنعانية والفينيقية والآرامية والعبرية والعربية والأثيوبية ومما لا جدال فيه وجود عدد من نقاط التشابه بين اللغات السامية ، فجذر الأفعال في كل من هذه اللغات ثلاثي،ولها صيغتان هما الماضي والمضارع ، هذا عدا عن التشابه في تصريف الأفعال([2] ) ووجود المثنى والتشابه في الكلمات الأساسية ، كالكلمات الدالة على القربى في العائلة الواحدة والضمائر والأعداد وأعضاء الجسم .
إن هذه القربى اللغوية هي الأهم ، لكن يضاف إليها تشابه في قيام المؤسسات الاجتماعية والمعتقدات الدينية ، وحتى في الشكل والقسمات الخارجية ، ومن الرسومات المصرية والآشورية ، يظهر أن السامي كان ذا بشرة سمراء داكنة ، وشعر أسود مجعد ، بالإضافة إلى رسومات تشير إلى بشرة شقراء وشعر أحمر .
أما من أين جاء الساميون ؟ فقد أصبحت نظرية متفقاً عليها بين معظم المؤرخين أن الجزيرة العربية هي المهد الأول لجميع الشعوب السامية ، هذه الشعوب التي تعود بدورها إلى الشعب الأصل .
ولا يعطي المؤرخ فيليب حتى الشعب السامي الأول أو الأصل أية مواصفات ، لكنه يجزم أن موطنه كان الجزيرة العربية ، ويضيف العديد من المؤرخين إلى ذلك أن هذا الشعب السامي الأصل ، أي الشعب الأب لكل الشعوب السامية من بعده ، كانت لغته السامية الأم أقرب ما تكون إليها اللغة العربية الفصحى المعروفة . ويؤكد هذه القربى اللغوية الشديدة علماء النحو المقارن للغات السامية ومنهم : بروكلمان ، ووليم رايت ، وإدوار دورم ( [3]).
وهنا تجدر الإشارة إلى فريقين من المؤرخين العرب : فريق منهم يؤكد التشابه في اللغات ووحدة الأصل والمنشأ من الجزيرة العربية ، وفريق يذهب إلى أبعد من ذلك ، فيؤكد أن الساميين عرب وبالتالي يؤكد هذا الفريق أن الكنعانيين عرب ، ويستشهد بما قاله العلاَّمة المؤرخ ابن خلدون :"أول مُلك في فلسطين في فجر تاريخها كان للعرب ".
ويقول الدكتور أحمد سوسة في كتابه "العرب واليهود في التاريخ :" ومن الثابت أن سكان فلسطين الأصليين القدماء قد كانوا كلهم عرباً هاجروا من جزيرة العرب إثر الجفاف الذي حلَّ بها ، فعاشوا في وطنهم الجديد "كنعان" أكثر من ألفي عام قبل ظهور النبي موسى وأتباعه على مسرح الأحداث ، وقد أخذ الموسويون بعد ظهورهم في أرض كنعان بلغة الكنعانيين وثقافتهم وحضارتهم وتقاليدهم ، هذه حقيقة تاريخية ثابتة ،أيدتها المكتشفات الأثرية الأخيرة وأخذ بها العلماء بالإجماع تقريباً إلاَّ أن أكثر الكتاب العرب الذين كتبوا في تاريخ حضارة العرب لم يتناولوا هذا الدور في بحوثهم إلاَّ عرضاً ، ولعل مرد ذلك إلى اصطباغ مصادره بصبغة اختصاصية تنحصر بالبحوث الآثارية .
لذلك انحصرت بحوثهم في عصور الجاهلية على الأكثر فتركوا بذلك فراغاً في تاريخ فترة ما قبل عهد النبي موسى في الأدب العربي ، وهي الفترة التي عدها اليهود بداية تاريخهم من غير أي سند علمي أو واقع تاريخي ، وقد جاراهم في ذلك حتى الكُتاب العرب معتمدين على الكتابات اليهودية والأجنبية التي قبلوها على علاَّتها من غير تمحيص ( [4]) .
ويقول المؤرخ مصطفى الدباغ في الجزء الأول من موسوعته الضخمة "بلادنا فلسطين" إن هؤلاء الساميين هم جميعاً طبقات متتابعة من العرب وإن اختلفت أسماؤهم ، وإن بلادهم جزيرة العرب ظلت منذ العصور المتناهية في القدم خاصة بهم ، وما دراستنا لتاريخهم إلاَّ دراسة لتاريخ بعض الأقوام العربية البائدة ، ويرى عدد من ثقات المؤرخين الأوروبيين أن العرب والساميين شيء واحد وقال سْبرنْغر أن جميع الساميين عرب ( [5]).
إن اعتبار الكنعانيين بالذات ساميين عرباً أم ساميين فقط لقضية جدلية ، أما الثابت تاريخياً فهو وجود العديد من القبائل والشعوب العربية على أرض فلسطين قبل الفتح العربي الإسلامي بقرون عديدة ن وحتى من عهد النبي موسى ن ومن هؤلاء العرب العمالقة ،ومنهم القبائل العربية التي نقلها سرجون الثاني إلى السامرة ،ومنهم القبائل التي جاءت البلاد قبيل الفتح .
ومما يميز تاريخ فلسطين منذ القرن الخامس عشر ق.م إلى أوائل القرن الثاني عشر ق.م أنه تعرض لسلسلة من غزوات الحثيين و المصريين وكثيراً ما أصبحت البلاد مسرحاً للقتال بين الجيش الحثي والجيش المصري،وكثيراً أيضاً ما ثار السكان على الاحتلال المصري الفرعوني الذي كانت نهايته بالتدريج بسبب ضعف حلفاء رعمسيس الثالث .
ويعد الفراعنة نازع الكنعانيين وهم السكان الأصليون ،قومان في عصر واحد :"الفلسطينيون" أو الفلسطيون الذين جاءوا من البحر و"الإسرائيليون" الذين قدموا من الصحراء، ولم يصمد الكنعانيون كثيراً أمام الغزاة الجدد وخصوصاً أن البلاد كانت في حالة اقتصادية سيئة نتيجة الحملات التأديبية التي كان يرسلها الفراعنة ،ونتيجة الجزية التي فرضوها عليهم ،وقد تمكن القائد الإسرائيلي يوشع من دخول فلسطين على الرغم من بسالة الكنعانيين وشجاعتهم .
الكنعـانيـون
وبينما كانت فلسطين، في عصور ما قبل التاريخ، آهلة بالسكان، تعرضت في أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد لموجة عربية (سامية) كبيرة، وهي الموجة المعروفة باسم " الآمورية – الكنعانية" التي تعاظم أمرها قبل عام (2500) ق.م. فنزل الآموريون داخل بلاد الشام وجنوبها الشرقي (شرقي الأردن)، واستوطن الكنعانيون ساحلها وجنوبها الغربي (فلسطين).
والكنعاني على وجه الاجمال، معتدل القامة، ممتلئ الجسم، عريض الأنف، ضخم الشفتين، بارز الذقن، كثيف الشعر وجلود في الأعمال الشاقة.
اختلف العلماء في تفسير معنى كلمة "كنعان" فبعضهم ذكر أن "كِنَع" أو " خَنَع" كلمة سامية بمعنى الأرض المنخفضة. وقد دعى الكنعانيون باسمهم هذا لنزولهم الأراضي السهلية واستقرارهم فيها تمييزاً لهم عن غيرهم الذين نزلوا الجبال والمرتفعات. والحقيقة أنهم سكنوا الجبال كما استقروا في السهول.
وغيرهم ذهب إلى أنها كلمة (حورية) مشتقة من كلمة (Kanggi) التي تعني صبغ الأرجوان الذي اشتهر به الكنعانيون. والذي نرجحه أن الكنعانيين دُعوا بهذا الاسم نسبة إلى جدهم الأول "كنعان" كما هي عادة العرب في تسمية قبائلهم، فيقولون "بنو مخزوم" و" بنو لَخْم" و"بنو تميم" و"بنو هاشم" و"بنو كنعان"... و"بنو كنعان" هؤلاء كانوا يقيمون في بادئ أمرهم، في أرضهم السهلية الواقعة على الساحل الشرقي للخليج العربي. وقد نسبت إليهم وسميت "بأرض كنعان"[6]. ولما نزحوا منها ونزلوا الشام حملوا معهم اسمهم واسم بلادهم الذي أعطوه لوطنهم الجديد.
والكنعانيون شديدو الصلة بالآموريين. فهما فرعان من قبيلة كبرى واحدة تحركت في هجرة واحدة لا في هجرتين مختلفتين. تعد لغة الآموريين والكنعانيين لهجتين من فروع كتلة اللغة السامية (العربي) السورية. فلهجة الكنعانيين شبيهة بلهجة الآموريين لا تختلف عنها أكثر مما تختلف اللهجات الشامية اليوم- من سورية ولبنانية وفلسطينية – بعضها عن بعض. حتى أن بعض المؤرخين ذهب إلى أن الآموريين هم الكنعانيون. والكنعانيون هم الآموريون.
قال أنيس فريحة: ] حوالي 2200 ق.م. بدأ تسلل قبائل عربية بدوية من شمالي الجزيرة العربية على نطاق واسع. وقد انتشرت هذه القبائل في سهول سوريا الشمالية الشرقية وقد اتجه بعضها غرباً جنوباً إلى شرق الأرض وتلال القدس وجبال لبنان. أما الذين تاخموا البحر، فقد عرفوا بالكنعانيين، ومن الكنعانيين كان الفينيقيون. واتجه البعض الآخر شرقاً جنوباً واكتسحوا بابل، ومنهم كانت سلالة حمورابي الآمورية[.[7]
وذكر بعض المؤرخين أن الكنعانيين كانوا في بادئ أمرهم يقطنون سواحل الخليج العربي الغربية، قبل نزوحهم إلى سواحل الشام وفلسطين. وأن سفنهم مخرت مياهه قبل أن تنزل في البحر الأبيض المتوسط. فكانوا يتاجرون مع الهند وإيران وسواحل الجزيرة العربية الجنوبية بل وافريقية.
ومن الذين قالوا بهجرة الكنعانيين من الخليج العربي "هيرودوتس Herodotus - (مؤرخ يوناني 484 -422 ق.م. ساح في بلدان الشرق الأدنى. ولما عاد إلى بلاده كتب تاريخ تلك الأقطار ) نقلاً عن علماء صور الذين ذكروا له ذلك. و" إسترابو " بالوشم والقصيم فالحناكية. ومنها ساروا في الطريق التي يسلكها الحجاج في كل سنة، حين عودتهم من المدينة إلى دمشق[8].
وقال المرحوم أمين الريحاني: ] ما أجمع عليه المؤرخون والأثريون أن الفينيقيين مثل العرب ساميون. بل أنهم عرب الأصل. نزحوا من الشواطئ العربية الشرقية على خليج فارس (فارس العربي)، ومن البحرين إلى سواحل البحر المتوسط في قديم الزمان.
ويستنتج من درس الآثار التي وُجدت في المقبرة القديمة في البحرين أن هجرتهم كانت قبل عهد الشبه، في أواخر العهد الصواني، يوم لم يكن الإنسان يحسن شيئاً من الكتابة. إذ لا كتابة البتة في مقابر البحرين الكنعانية[[9].
وقد ذكر المؤرخ العربي أبو جرير الطبري المتوفى عام 310هـ : 922م. الكنعانيين في تاريخه أنهم من العرب البائدة، وأنهم يرجعون بأنسابهم إلى العمالقة. وأخذ عنه ابن خلدون وغيره من المؤرخين[10].
وقال الطبري: ] عمليق أبو العماليق. كلهم أمم تفرقت في البلاد، وكان أهل المشرق وأهل عُمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر منهم، ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم "الكنعانيون"، ومنهم كانت الفراعنة بمصر[11][ .وقال أيضاً :[ والعماليق قوم عرب لسانهم الذي جلبوا عليه لسان عربي و] إن عمليق أول من تكلم بالعربية[12][. و]... فعاد وثمود والعماليق وأُميم وجاسم وجديس وطسم هم العرب[13][.
وقال ابن خلدون عن الكنعانيين: (وأما الكنعانيون الذين ذكرهم الجغرافي الروماني 64 ق.م. -19 م. الذي أشار إلى المقابر الموجودة في جزر البحرين بأنها تشابه مقابر الفينيقيين (إن الرأي السائد بين الذين عنوا بدراسة وفحص هذه المقابر بأنها مقابر فينيقية، ففي عام 1889م جاء " تيودور بنت-Theodore Bent" العالم الانجليزي إلى البحرين وأجرى تنقيباً في مقابرها. وبعث بشيء منها إلى المتحف البريطاني. ولما درستها لجنة المتحف قررت أنها من مقابر الفينيقيين وذلك قبل هجرتهم إلى سواحل الشام وفلسطين) وأن سكان هذه الجزر يذكرون أن أسماء جزائرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية. وقال أيضاً إن في هذه المدن هياكل تشبه الهياكل الفينيقية الشامية.
وقد عثر رجال شركة الأرامكو في الأحساء على مقابر أُخرى تشبه بصورة عامة المقابر التي عثر عليها في البحرين، كما عثر الرحالة " جون فلبي" على مثل هذه المقابر في " الخَرْج" و" الأفلاج" من أعمال نجد. وعلى رأيه ربما كان الفينيقيون من هاتين المنطقتين، حيث هاجروا بعدئذٍ إلى سواحل الخليج العربي.
وفضلاً عما تقدم فهناك أسماء في شرق الجزيرة العربية تحمل نفس أسماء المدن التي أنشأها الفينيقيون على الساحل الشامي. مثل " صور " على ساحل عُمان، و" جُبَيْل " على ساحل الأحساء و" ارواد –Aradus" وهي الاسم القديم لجزيرة "المحرِّق".
وقد زار " نيركس –Nearchus" أمير البحر عند الإسكندر المكدوني مدينة الشمس "صيدا" على شاطئ الجزيرة العربية الشرقي. ولم يتمكن أحد بعد من تعيين موقع "صيدا" هذه حتى اليوم.
ويذكر جان جاك بيريبي ([14])أن الفينيقيين انطلقوا من البحرين إلى البصرة سالكين طريق الهلال الخصيب إلى الساحل الشامي حيث بنوا مدنهم وأنشأوا حضاراتهم الرفيعة التي نشروها في البحر الأبيض المتوسط.
وأما " فرنسيس لزمان" مؤلف تاريخ الشرق القديم فيرى أنهم سلكوا طريق القوافل من القطيف إلى وادي غطفان وجبل طويق في نجد. ثم ذكرهم ابن خلدون على أنهم من العمالقة، كانوا قد انتشروا ببلاد الشام وملكوها [15]. وقال أيضاً: (أول ملك كان للعرب في الشام فيما علمناه للعمالقة[16]. وقال أيضاً: (وكانت طَسْم والعماليق وأُميم وجاسم يتكلمون بالعربية[17]).
وقد جاء في الجزء الثاني من "لغة العرب" (والظاهر أنهم (أي الكنعانيين- الفينيقيين) من أصل عربي فقد نقلت التقاليد القديمة أنهم ظعنوا من الديار المجاورة لخليج فارس إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط).
وقال الدكتور جيمس هنري برستيد: ( وسكان هذه البلاد الآسيوية (سورية) ساميون، لا يبعد أن يكونوا من مهاجري صحراء العرب، والمعروف أن مثل هذه الهجرة تكررت في العصور التاريخية. ويقال لهؤلاء القوم الحاليين بالجهات الشمالية "الآراميون" وبالجهات الجنوبية "الكنعانيون"[18].
(قال رولنسون أن أصل الفينيقيين (الكنعانيين) من سكان البحرين في الخليج العربي. ظعنوا من هناك إلى ساحل الشام منذ نحو خمسة آلاف سنة. وأنهم عرب بأصولهم وأن هناك مدناً فينيقية أسماؤها أسماء فينيقية مثل صور وجبيل[19].
وعليه فإن الكنعانيين دخلوا بلادنا وهم متقدمون في المدنية، فأخذوا يتابعون نشاطهم ويمارسون حضارتهم على نطاق أوسع من وطنهم الجديد.
ونسبة إلى هؤلاء الكنعانيين دُعيت البلاد بأرض كنعان. فكان أقدم اسم سميت به بلادنا. وقد بقيت لهم السيادة والسلطة في البلاد مدة تنوف عن ألف وخمسمائة سنة. وذلك من نحو 2500 ق.مز إلى نحو 1000ق.م. حيث تمكن اليهود من إعلان مملكتهم.
حـدود أرض كنـعـان:
يتضح من مراسلات " تل العمارنة " التي بتاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، إن المصريين كانوا يطلقون لفظة " كنعان" على جميع السواحل السورية.
و"العهد القديم" الذي هو أهم مصدر لنا في هذا الشأن اختلف في تحديد " أرض كنعان " في مختلف أسفاره فتارة يطلقها على الساحل الشامي إلى حدود مصر[20]، وأحياناً يضيف إلى " كنعان" القسم الجبلي [21] وغور الأردن[22].
يطلق اسم " أرض كنعان " على سكان الجبال والسهول ومنطقة بئر السبع الواقعة في جنوبي البلاد، والتي كانت تعرف باسم " النجب –Negeb " بمعنى الأرض الجافة([23]) .
ويحدد الدكتور جورج بوست أرض كنعان بالحدود الآتية: ( وكانت حدودها الأصلية مدخل حماة (بمعنى الطريق إلى حماة) شمالي لبنان إلى الشمال وبادية سورية والعرب إلى الشرق وبادية العرب إلى الجنوب. ولم تمتد إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في كل الأماكن إلى الغرب لأن الفلسطينيين ما زالوا إلى أن انقرضوا يقطنون ذلك الساحل([24]) بوحدة مستقلة قوية. ولذلك اشتمل على عدد كبير من المماليك المدينية الآمورية – الكنعانية المختلفة. فكانت كل منها تسعى لأن تضم أكبر عدد ممكن من الأراضي والقرى المجاورة لها. وكان لكل من هذه المدن ملكها وحكومتها ومعبودها وكهنتها. وكان الملك في بعض الأحايين، يجمع في شخصه منصبي الحاكم والكاهن الأكبر. يأتمر الجميع بأوامر الملك الذي كان أحياناً يتقيد بمجلس المدينة العام المؤلف من رجال الدين والقضاء والأغنياء والأشراف. وكثيراً ما كانت المدن الكنعانية بيد ملوك صالحين يقضون بالعدل ويحفظون حقوق الأرامل واليتامى. وكان الأبناء أو الإخوة يخلفون آباءهم أو إخوتهم على العرش على الأغلب. وقد ينتقل الملك إلى أسرة أخرى أو تنتزع الإمارة وتسلب نتيجة ثورة عناصر تصبح لها الغلبة وحسن الضرورة كانت تعقد مؤتمرات من المدن الكبرى للتداول في الشؤون العامة المشتركة.
ولم تكن المدن والإمارات الكنعانية ميّالة بطبيعتها إلى توحيد كلمتها وتحسين إرادتها، بل كان الشقاق سائداً بينها طمعاً في نهب الأمتعة وضم الأراضي إليها.
(قال المؤرخ جورج رولنسون: ما تأسس حلف من الولايات الفينيقية كلها مرة واحدة، حتى ولا حلف موقت. وما كان يرد إلى الولاية المهددة أي نجدة من الولايات الأخرى شقيقاتها. الانطواء وتضارب المصالح الخاصة، وضعف الحس القومي، كانت كلها تحول دون توحيد الكلمة والعمل في أيام الخطر والشدة, وكانت كل ولاية تسقط وحدها، فتتبعها الولايات الأخرى واحدة واحدة.
فما كان أولئك الفينيقيون ليدركوا معنى التعاون، ولا مالوا يوماً إلى التضامن العام الذي فيه خير القومية الواحدة والوطن. ولنا أن نقول ما كان هناك وطن واحد، ولا حس قومي واحد، حتى ولا إله واحد يجمع شملهم، ويربطهم برابطة وطنية واحدة.
وما عرف أبناء مدنهم المنحدرون من نسل واحد معنى الإخاء القومي، ولا أدركوا مغزى الحياة الوطنية. وقل فوق ذلك أنهم كانوا متعادين في بعض الأحيان، متخاذلين على الدوام[25]).
إلا أن هذه الإمارات كانت ولا شك ، على جانب عظيم من الحضارة والمدنية في أمور أُخرى مما سنذكره في حينه.
والكنعانيون الذين نزلوا الساحل أمام جبل لبنان عرفوا بعد القرن الثاني عشر أو الحادي عشر قبل الميلاد بالفينيقيين. فالكنعانيون والفينيقيون شعب واحد، نسباً ولغة وديناً وتمدناً، انقسم إلى قسمين: سكن الأول فلسطين والثاني الساحل الشامي من مصب نهر العاصي إلى جنوبي الكرمل. ومع أن اسم الفينيقيين أصبح أشهر من اسم كنعان عليهم إلا أنهم ظلوا محافظين على نسبهم الكنعاني. وبقوا يسمون أنفسهم كنعانيين ولا يرضون عنه بديلاً.ونظراً لما بين بيئتي القسمين الجغرافيين من الاختلاف لم يتشابها تماماً في حياتهما. فالساحل السوري صيّر من كنعان أمة اشتهرت بملاحتها وخوضها عُباب البحور. وأما فلسطين فلعدم وجود موانئ صالحة على سواحلها، ولتعرضها للغارات المتعددة من قبل الأمم القديمة، اتجه كنعانيوها إلى الأعمال الزراعية وإلى الجبال والقلاع، وأحاطوا مدنهم بأسوار يلتجئون إليها كلما شعروا بقدوم غازٍ أو فاتح جديد.
وحصل الفينيقيون على أكبر نصيب من العمران عن طريق التجارة، كما أن إخوانهم في الجنوب اهتموا بالتغلب على صعوبات الحاجات العمرانية بترفيه حالتهم الاقتصادية على أساس زراعة راقية غنية جداً، اتخذت مثالاً نقلت عنه الأمم الأخرى.
ومما يجدر ذكره، ونحن بصدد الحديث عن الكنعانيين أن ابن خلدون المؤرخ العربي المغربي الكبير وكثير ممن درس تاريخ المغرب يؤكدون بأن الأمازيغ أصل وأقدم سكان ليبيا والمغرب العربي كافة – هم من الكنعانيين [26]. دعوا بذلك نسبة إلى جدهم " مازيغ بن كنعان[27]"، وارتحلوا من ربوع الشام إلى شمالي إفريقية عن طريق مصر.
وقد أطلق اللاتينيون، ومن والاهم، اسم " البربر" على الأمازيغ وما زالوا يعرفون به إلى اليوم. وهذا وأن معظم البربر يعتقدون بأنهم مشارقة الأصل.
كان هؤلاء الكنعانيون المغاربة ينقسمون إلى عشائر متعددة وقبائل صغيرة محلية، حضارتهم كنعانية ترتكز على الزراعة.
وجاء في معجم البلدان/1/368: وإنما هم (أي البربر) من الجبّارين الذين قاتلهم داود وطالوت، وكانت منازلهم ناحية فلسطين، فلما أخرجوا من أرض فلسطين أتوا المغرب فتناسلوا به وأقاموا في جباله).وقال مثل ذلك المؤرخ المسعودي المتوفى عام 346 هـ ([28]).وفي تاريخ أبي الفداء (هو الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة. توفي سنة 732 هـ ) أن الكنعانيين بعد تفرقهم سارت طائفة منهم إلى المغرب([29]).
وفي نحو 1000ق.م. نزل كنعانيو الشرق – الفينيقيون – سواحل المغرب العربي واستقروا فيه، وأسسوا مع أبناء عمهم الأمازيغ، أسواقاً لتجارتهم أصبحت فيما بعد مدناً قائمة بذاتها، تمتد على سواحل المملكة المغربية الواقعة على المحيط الأطلسي ونتيجة لهذه المستعمرات أو المدن اختلط كنعانيو المشرق مع كنعانيي المغرب اختلاطاً وثيقاً فانتشرت اللغة الكنعانية بين الأمازيع الذين اعتنقوا عقائد أبناء عمهم الفينيقيين الدينية وتطبعوا ببعض عاداتهم وتعلموا منهم أصول التجارة والصناعة وغيرها.
وقد أطلق اسم كنعان على المنطقة الساحلية التي تقع بين مصب نهر العاصي شمالاً وحدود المملكة المصرية جنوباً قرب العريش وتضم هذه المنطقة فلسطين وما سمي فيها بعد فينيقية وأما الكنعانيون فيختلف العلماء في أصلهم فمنهم من قال أنهم الأقوام الذين تسللوا بين العموريين في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد ويدعوهم كلود شيفر وكاثلين كنيون حملة الأطواق ومنهم من قال الأقوام العمورية التي استوطنت في الأراضي المنخفضة من فينيقية وفلسطين ويقوي الأخذ بالرأي الثاني الدلائل التي تشير إلى أن حملة الأطواق كانوا في الغالب أقواماً حورية لا سامية وأنهم جاؤوا من الشمال لا من الشرق أو الجنوب مهبط الأقوام السامية والكنعانيون كانوا دون أدنى شك من أصل سامي والمعلوم أن العموريين الذين جاؤوا من الصحراء من الصحراء شنوا في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد حملات حملات كثيرة على المدن الفينيقية والفلسطينية التي ازدهرت في الألف الثالث قبل الميلاد وتدعى حضارتها حضارة العصر البرونزي القديم ودمروها شر تدمير وفتكوا بأهلها وأفنوهم عن بكرة أبيهم ونشروا الفوضى والخراب في المنطقة لمدة أربعة قرون وعندما قامت الأسرة الثانية عشرة في مصر في القرن العشرين قبل الميلاد أعيد النظام إلى نصابه وتأسست مدن جديدة على أنقاض المدن التي دمرها العموريون.
تدعى هذه المدينة الجديدة حضارة العصر البرونزي المتوسط وقد حلت محل حضارة العصر البرونزي القديم التي دمرها العموريون وتدل أسماء ملوك بعض المدن على أن اللغة كانت لغة أو لهجة عمورية واستوطن بعض العموريين في المنطقة الجبلية وبقوا على اسمهم واستوطن بعضهم الآخر في الأرض المنخفضة في فلسطين وفينيقية وسموا كنعانيين وكلمة كنعان مشتقة من كلمة كنع ومعناها اللغة الفينيقية أو الكنعانية انخفض ويشمل عهد الكنعانيين العصرين الأثريين البرونزي المتوسط والبرونزي المتأخر.
ومن المدن التي أنشأها العموريون في القرن العشرين والقرن التاسع عشر ق.م جبيل وصيد وصور وأوغاريت (رأس شمرا) في فينيقيا ،ومجدو وتل العجول (غزة القديمة) وبيتين وبيسان وبيت شمش (عين شمس حالياً) وتل الدّوير (لاخيش قديماً) وتل الجزر(جيزر قديماً) وحاصور(تل القاضي حالياً) وأريحا والقدس (يبوس قديماً) وأهم هذه المدن جبيل لكونها مصدّرة الأخشاب من جبل لبنان إلى مصر ،وفي زمن الأسرة الثانية عشر كانت أرض كنعان تابعة لمصر بمحض إرادتها لما جنته من الثراء عن طريق التجارة مع وادي النيل .
وتعرّض فن كنعان للمزيد من التأثير المصري ،وبين الحلي التي وجدت في قبر"أبي شيمو" و"ابشموابي" جواهر مصنوعة محلياً ولكنها منقولة عن المجوهرات المصرية.
وفي أواسط القرن الثامن عشر ق.م تعرضت أرض كنعان لهجمات شنتها أقوام جاءت من شمال العراق تدعى الأقوام الحورية التي غزت أرض كنعان عندما ضعفت السلطة المركزية في مصر بعد زوال الأسرة الثانية عشر،وقد جمع الحوريون عدداً كبيراً من المرتزقة من كنعان وانقضوا على مصر واحتلوها برمتها لمدة 150-180 سنة على وجه التقريب،وكان بين المرتزقة زمرة من العيبرو ويسمي المؤرخ مانيثون هذه الأقوام الهكسوس ،أي الحكام الأجانب وفي زمرة الأسرة الثامنة عشر طرد المصريون الهكسوس من مصر ولاحقوهم حتى مدينة شاروحين في جنوب فلسطين وبعد هذا لا يعثر لهم على أثر إذ اندمجوا بالكنعانيين وضيّعوا شخصيتهم .
لم ينس المصريون ما فعلت بهم أقوام جاءت عن طريق كنعان وإن لم تكن كنعانية ،فأخذوا يشنون الهجمات على كنعان ،وأول من غزا كنعان كان تحتمس الأول،ولكن غزوته كانت غزوة طارئة تلاشت ملامحها بعد أن عاد إلى مصر،ولكنها فتحت أعين الكنعانيين فأخذوا يتحسبون لغزوات تابعة وأقاموا حلفاً بينهم وترصدوا للحملات المصرية في مضيق وادي غارة قرب مجدو.وعندما اعتلى تحتمس الثالث عرش الفراعنة شنّ ست عشرة حملة على المدن الكنعانية والسورية مبتدئاً بمجدو حيث قهر أمير قادش واستولى على أرض كنعان برمتها،وحصلت ثورات كثيرة على الحكم المصري بعد هذا ولكن الفرعون أخمدها.
أذعنت أرض كنعان للحكم المصري لأن الاستقرار الذي رافق حكم الفراعنة حسّن أحوال الكنعانيين وشجّع تجارتهم وصناعتهم فتركوا للمصريين حمايتهم من الغزاة المتربصين بهم في الشرق.
ودامت هذه الحال حتى مجيء أمنحوتب الرابع أو أخناتون الذي لم يكن يكترث بأمور الدولة والحفاظ على الأمن بل صبّ كل جهده على الإصلاحات الدينية وكان أول من بشّر بالتوحيد.
واستغل جيران الكنعانيين من حثيين وعموريين هذا الظرف وكان ملك الحثيين "شوبلوليوما" قد حرض "عبد عشرتا" أمير العموريين على الهجوم على المدن الكنعانية مستعيناً بالمرتزقة من الخبيرو ليفصلها عن منطقة نهارين الخصبة في شمال سوريا التي كان يطمع بها،فاستغاث الكنعانيون بالفرعون أمنحوتب الثالث فأغاثهم وصدّ العموريين ولكن بعد مماته واعتلاء ابنه أخناتون عرش الفراعنة أعاد العموريون الكرّة وهاجموا المدن الكنعانية ،ولم تُجْدِ نفعاً استغاثات ملوكها بالفرعون فاحتلها العموريون الواحدة بعد الأخرى ابتداء من سميرة شمالاً فجبيل فبيروت فصور فأورشليم
وعاث الخبيرو فساداً في الأرياف الفلسطينية ودمّروا قراها،واحتل "شوبلوليوما" ملك الحثيين مدينة أوغاريت (رأس شمرا حالياً) وقد عثر في تل العمارنة على الرسائل التي تبودلت بين الملوك الكنعانيين والبلاط المصري أثناء هذه الأحداث الرهيبة.
وعند قيام الأسرة التاسعة عشر في أواخر القرن الرابع عشر والقرن الثالث عشر ق.م تمكن الفراعنة من طرد العموريين من أرض كنعان وإعادة سيطرتهم عليها فرحب بهم الكنعانيون أجمل ترحيب،واضطر المصريون بعد الحروب التي نشبت بين الحثيين والفرعون رعمسيس الثاني إلى أن يكتفوا بأرض كنعان ويتركوا مناطق سوريا الشمالية تحت سلطة الحثيين.
وفي أوائل القرن الثاني عشر ق.م ظهرت في الأفق أقوام إيجبية هاجمت مصر وأرض كنعان من الجنوب والشمال بشكل كمّاشة . وبالرغم من أن رعمسيس الثالث صدّهم في معركة بلوزيون (قرب بور سعيد) البحرية فقد اضطر إلى أن يفسح لهم المجال للاستيطان في جنوب فلسطين ،وقد دمّرت الموجة التي انصبّت على أرض كنعان من الشمال رأس شمرا وجزيرة أرواد في طريقها واندمجت بالكنعانيين فنشأت بذلك الأقوام الفينيقية .
وفي فلسطين أرض كنعان الجنوبية تمكن الفلسطيّون الذين جاءوا من سواحل البحر الإيجي من إخضاع البلاد وحماية المدن من الإسرائيليين الذين أصبحوا بدورهم تحت سيطرة الفلسطيّين حتى جاء الملك سيدنا داوود.
وأهم مدينتين كنعانيتين هما جبيل في لبنان ومجدو في فلسطين،وكانت مجدو محصنة بسور ذي بوابة مؤلفة من ثلاثة أبواب الواحد تلو الأخر تحميها أربع غرف للحرس،غرفتان من كل جانب،وكان السور مائلاً من الخارج ومبنياً بحجارة ضخمة ،ووجد في داخله معبد وقصر،وكان الكنعانيون في مجدو يدفنون موتاهم في قبور منحوتة في الصخر، وكانت هذه تحتوي عادة على أكثر من مدفن.
وأهم مزايا هذا العصر صناعة الخزف الذي يعد أجمل ما صنع حتى العصر اليوناني،وكان الكنعانيون يفضلون الشكل الإجاصي،وكانوا أول أمرهم يطلون الأواني باللون الأحمر القرمزي ويصقلونها صقلاً لمّاعاً ،ثم أصبحوا يطلونها باللون العاجي ويدهنونها باللونين الأحمر والبني. وتنوعت أشكال الأواني من جرار وأباريق وغطاسات وصبابات وطاسات مجأجأة وسرج وأكواب.
وكان الكنعانيون يصنعون الأواني من النحاس والفضة والذهب كما ظهر في جبيل،وازدهرت صناعة المعادن فصنعوا الفؤوس والخناجر والرماح ،وأما رؤوس النبل فلم تظهر إلاّ في أواخر عهد الكنعانيين في العصر البرونزي المتأخر.ومن أدوات الزينة الأشكال الحلزونية التي كانت تستعمل لتجعيد الشعر والدبابيس المثقوبة المزودة برأس بشكل بطيخة ،وفي مدينة جبيل ترك الكنعانيون عدداً كبيراً من التماثيل للإله رشف،كما أنهم صنعوا تماثيل لجنود يحملون الأسلحة المختلفة.
وكذلك كانوا يصنعون من الطين أيضاً تماثيل للآلهة والأشخاص والحيوانات ،وكان عصر الكنعانيين غني بالحلي والمجوهرات،فهنالك أقراط وخواتم وأساور من الفضة والذهب واستُعمل الخرز بكثرة وكان يصنع من العقيق الأحمر المحزز،ومن الحجر الجيري.
باشر الكنعانيين في أوائل هذا العصر بحفر العاج فأخذ هذا الفن يترعرع حتى بلغ أوجه في القسم الثاني من ذلك العهد،وكانوا يصنعون الخناجر الذهبية للاستعمال في الحفلات ،كما كانوا يتحلون بالقلائد المصنوعة من الذهب والمرصّعة بالحجارة الكريمة،وفي قبر "أبشموابي" وجد كنز من المجوهرات المصنوعة من الذهب والفضة والمرصعة بالحجارة الكريمة.
وفي العصر البرونزي المتأخر قلّ عدد المدن المحصنة وصغر بعضها وتضاءل الأثاث الجنائزي كثيراً بالنظر لفقر البلاد بسبب الضرائب الباهظة التي كانت كنعان تدفعها لمصر.
وأصيب الفن كذلك بالاضمحلال والانحطاط ،وأما الهندسة فقد أصابها بعض الشلل وابتعدت عن الدقة وإن لم يتغير شكلها.
ويظهر هذا الانحطاط جلياً في صناعة الخزف ،إذ فقدت الأواني الدقة والعناية المألوفتين في العصر السابق وكاد الصقل يكون معدوماً ،وقد حاول الخزافون تغطية هذا الانحطاط بتلين الآنية ولكن بطريقة بعيدة عن الذوق ،وفي أواسط هذا العصر استوردت أواني كثيرة من قبرص ومن ميسين في بلاد اليونان وقد حاول الخزافون الكنعانيون تقليد الأواني المستوردة ولكن محاولتهم أخفقت،فالأواني المنقولة عن الأواني المستوردة كانت قبيحة خالية من رونق الخزف القبرصي والميسيني الأصلي.
وفي هذا العصر تلاشت الفؤوس الحربية وحلت محلها فؤوس جديدة غير مزودة بثقوب ،وظهرت خناجر جديدة منقولة عن الخناجر الميسينية ذات يد من خشب فوق أساس من البرونز.
وظهرت لأول مرة رؤوس النبل المصنوعة من البرونز ويشبه شكلها ورق الغار بزيادة قطع على جوانبها لتساعدها على الرسوخ في الهدف.
رابطة ادباء الشام
الكنعانيون
محسن الخزندار
mohsen205@live.com
أثر الحضارة الكنعانية(العربية) على اليهود(الموسويون –العبريون)
في اللغة والثقافة والحضارة والتقاليد
أولاً :الشـعـوب السـاميـة
الساميون، إحدى السلالات الثلاث (وهذه السلالات هي: الساميون والحاميون الذين كانوا يقطنون السودان وشرقي إفريقية وشماليها حول وادي النيل، والآريون) التي انحدر منها الجنس الأبيض في العالم اليوم. ويرتبط الساميون بوحدة الأصل العنصري، وتشابه معتقداتهم الدينية وتقاليدهم الاجتماعية، وبوحدة لغاتهم التي تنحدر من أصل واحد. فإن كلاً منها جزء من اللغة السامية الأولى، اللغة التي لا يعرفها أحد اليوم. فجذر الأفعال في كل من هذه اللغات ثلاثي، ولها صيغتان: صيغة الماضي وصيغة المضارع، وتصاريف الأفعال فيها متشابهة.
وعائلة اللغات السامية تُعد من أكبر العائلات اللغوية بين لغات البشر، ومن فروعها اللغة الأكادية ( البابلية) والآشورية والآرامية والكنعانية والعبرانية والحبشية والعربية التي تعتبر أشد اللغات السامية تشابهاً باللغة السامية الأم.
وتختلف المجموعة اللغوية السامية عن غيرها من المجموعات اللغوية الأخرى. وأقربها إليها المجموعة الحامية.
وتعتبر جزيرة العرب الموطن الأصلي للجنس السامي، وذلك لأن معظم أراضيها قاحلة، فيضطر أهلها للرحيل عنها كلما ازداد عددهم، فيهاجرون إلى البلاد المجاورة التماساً للرزق وطلباً للعيش.
إن التنقل البطيء من الصحراء إلى الأراضي الخصبة طلباً لرزق وغيره حركة مستمرة لم يقف سيلها منذ أقدم الأزمنة حتى يومنا هذا. إلا أن هذه الهجرات تزداد أحياناً ويتعاظم أمرها حتى تصير موجة قوية جارفة تحمل معها العدد الضخم من القبائل البدوية، من الخليج المُفتقر إلى الهلال الخصيب. (يطلق اسم "الهلال الخصيب" على ما يعرف اليوم بالعراق وبلاد الشام. وسبب هذه التسمية هو أن القطرين المذكورين المعروفين بخصب أراضيهما يكونان نصف دائرة أو هلالاً، طرفه الغربي ينتهي في الجهة الشرقية الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط. وطرفه الشرقي ينتهي بخليج العرب. وسميت الصحراء القاحلة التي تتاخم الهلال وتدخل فيه بالخليج الفقر. ويبلغ عرض هذه الصحراء نحو 500 ميل:800 كم).
قال المؤرخ الإيطالي "كايتاني" عن جزيرة العرب: " لقد أخذت جزيرة العرب تتقهقر وتفقد رطوبتها واعتدال جوها وأسباب العيش فيها منذ أكثر من أربعة عشر ألف سنة، وبما أن هذا التقهقر كان بطيئاً جداً فإن تأثيره في حياة السكان لم يكن فجائياً، بل كان مطرداً تبعاً للقلة في الأمطار، وارتفاع حرارة الجو، على أن ازدحام السكان لم يكن هنالك كما هي الحال في البلاد المزدحمة الآهلة، وكان الناس يعيشون من صيد الأسماك ويسكنون متفرقين متباعدين.
ولذلك يمكن أن يقال إن سكان الجزيرة ظلوا على حياتهم هذه إلى أن أخذوا يشعرون بقلة الزاد والمحصول بسبب ندرة الأمطار فانصرفوا إلى تدجين الحيوانات البرية ليدفعوا عن أنفسهم غائلة الجوع. ولما اشتدت بهم الحالة ونفذ صبرهم من الفاقة والجوع والعطش ارتحلوا إلى بلاد أخصب تربة وأجود جواً وأكثر أمطاراً.
وهكذا بدأت أولى هجراتهم التي حدثت غير مرة. فإن الآثار التي استخرجت من جوف الأرض ما بين الفرات ودجلة تبرهن على أن أُولى الهجرات السامية قد بدأت بنحو خمسة آلاف من السنين من ميلاد المسيح، على أن هذه الاكتشافات يجب أن لا تنفي فكرة وقوع هجرات سامية أخرى قبل هذا التاريخ([1])".
وقد شرع الساميون، قبل العصر التاريخي ينزلون مصر حوالي عام 3500 ق.م. ويرجح أنهم دخلوا مصر عن طريق فلسطين فسيناء فالدلتا تم استقروا فيها بعد أن امتزجوا بسكانها الأصليين. ومنهما تكون " المصريون" الذين نعرفهم في التاريخ. فكانت هذه الموجة هي أقدم ما عرفنا من الموجات النازحة من بلاد العرب إلى مشارف الجزيرة – العراق والشام ومصر.
إن تأثير العرب الساميين هؤلاء لم يبق مقتصراً على المصريين، بل تجاوزهم إلى شعوب إفريقية، وعلى الأخص إلى شعوب أقطارها الشمالية والسودان والحبشة وغيرها.
وفي نهاية الألف الرابع أو أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، هجر الساميون البادية وأخذوا يقيمون في العراق. فنزل "الأكاديون –Akkadians" منهم في الجنوب والآشوريون في الشمال. وقبل عام 2500 ق.م. تعاظم أمر موجة سامية أخرى عرفت بالموجه" الآمورية – الكنعانية" . وهي الموجة التي اتخذت طريقها إلى بلاد الشام. فنزل الآموريون القسم الداخلي من تلك البلاد، ونزل الكنعانيون قسمة الساحلي وفلسطين. ونزح فريق من الآموريين في نحو عام 1900 ق.م.، إلى العراق وكونوا فيه سلالة بابل الأولى. ومنها ظهر حمورابي في نحو 1728-1686 ق.م. والراجح أن الهكسوس الذين نزلوا مصر وحكموها في القرن السابع عشر قبل الميلاد هم من الكنعانيين.
وبعد الموجة المذكورة بنحو ألف سنة تعرضت بلاد الشام لموجة سامية أخرى وهي الهجرة الآرامية، وفيها القبائل المؤابية والآدومية والعمُّونية. فحل الآراميون في شمالي سورية وأوساطها وأنشأوا فيها دولاً تجارية مهمة، منها دولة مدينة دمشق. ونزل المؤابيون والآدوميون والعمُّونيون جنوبي سورية، شمالي البحر الميت حتى العقبة.
واستوطنت في أواخر القرن الثامن قبل الميلادية قبيلة " كلدْي" الآرامية، جنوبي العراق، وقُدِّر لها أن تؤسس الامبراطورية الكلدانية وهي آخر امبراطورية ظهرت في العراق في العصور القديمة.
ومن الموجات السامية الموجة التي أتت بالأنباط إلى جنوبي الشام في نحو عام 500 قبل الميلاد، ثم هجرة اللَّخْميِّين والغساسنة إلى العراق والشام، وكانت آخر الموجات الكبرى موجة العرب المسلمين في القرن السابع للميلاد. وكان من نتائجها نزول قبائلها في جميع أراضي الهلال الخصيب وفي شمالي افريقية واسبانيا وفارس وبعض أنحاء آسيا الوسطى.
يتضح مما تقدم أن هؤلاء الساميين هم جميعاً طبقات متتابعة من العرب وإن اختلفت أسماؤهم وأن بلادهم جزيرة العرب، ظلت منذ العصور المتناهية في القدم خاصة بهم. وما دراستنا لتاريخهم إلا دراسة لتاريخ بعض الأقوام العربية البائدة. ويرى عدد من ثقات المؤرخين الأوروبيين أن العرب والساميين شيء واحد. وقال " اسبرنجر – Sprenger" إن جميع الساميين عرب.
وصفوة ما تقدم، إن العالم بحضاراته العظيمة المختلفة مدين لهذه الجزيرة العربية التي انتشر سكانها في الشام والعراق وإيران وآسيا الوسطى ومصر وليبيا وبلاد المغرب والحبشة والأندلس وغيرها. وأقاموا فيها أقدم الحضارات وأعرقها.
يتضح وفقاً للمكتشفات الأثرية في مصر والعراق أن الساميين هم أقدم الشعوب المعروفة على أرض فلسطين ، فمنذ الألف الرابع ق.م كان الساميون على شاطيء البحر المتوسط الشرقي .
لكننا لا نستطيع الاستنتاج أنهم كانوا أول السكان البدائيين في المنطقة ،ذلك بأن أقدم المحفوظات المصرية والبابلية تعود إلى سنة 3500 ق.م .
من الوجهة الدينية يعتبر الساميون في الأصل القبائل المتحدرة من سام ، الابن الأكبر لنوح عليه السلام.
واللفظة على الصعيد العلمي باتت لغوية فهي تشمل كل الشعوب التي تكلمت باللغات السامية: الآشورية البابلية (الأكادية) ، والكنعانية والفينيقية والآرامية والعبرية والعربية والأثيوبية ومما لا جدال فيه وجود عدد من نقاط التشابه بين اللغات السامية ، فجذر الأفعال في كل من هذه اللغات ثلاثي،ولها صيغتان هما الماضي والمضارع ، هذا عدا عن التشابه في تصريف الأفعال([2] ) ووجود المثنى والتشابه في الكلمات الأساسية ، كالكلمات الدالة على القربى في العائلة الواحدة والضمائر والأعداد وأعضاء الجسم .
إن هذه القربى اللغوية هي الأهم ، لكن يضاف إليها تشابه في قيام المؤسسات الاجتماعية والمعتقدات الدينية ، وحتى في الشكل والقسمات الخارجية ، ومن الرسومات المصرية والآشورية ، يظهر أن السامي كان ذا بشرة سمراء داكنة ، وشعر أسود مجعد ، بالإضافة إلى رسومات تشير إلى بشرة شقراء وشعر أحمر .
أما من أين جاء الساميون ؟ فقد أصبحت نظرية متفقاً عليها بين معظم المؤرخين أن الجزيرة العربية هي المهد الأول لجميع الشعوب السامية ، هذه الشعوب التي تعود بدورها إلى الشعب الأصل .
ولا يعطي المؤرخ فيليب حتى الشعب السامي الأول أو الأصل أية مواصفات ، لكنه يجزم أن موطنه كان الجزيرة العربية ، ويضيف العديد من المؤرخين إلى ذلك أن هذا الشعب السامي الأصل ، أي الشعب الأب لكل الشعوب السامية من بعده ، كانت لغته السامية الأم أقرب ما تكون إليها اللغة العربية الفصحى المعروفة . ويؤكد هذه القربى اللغوية الشديدة علماء النحو المقارن للغات السامية ومنهم : بروكلمان ، ووليم رايت ، وإدوار دورم ( [3]).
وهنا تجدر الإشارة إلى فريقين من المؤرخين العرب : فريق منهم يؤكد التشابه في اللغات ووحدة الأصل والمنشأ من الجزيرة العربية ، وفريق يذهب إلى أبعد من ذلك ، فيؤكد أن الساميين عرب وبالتالي يؤكد هذا الفريق أن الكنعانيين عرب ، ويستشهد بما قاله العلاَّمة المؤرخ ابن خلدون :"أول مُلك في فلسطين في فجر تاريخها كان للعرب ".
ويقول الدكتور أحمد سوسة في كتابه "العرب واليهود في التاريخ :" ومن الثابت أن سكان فلسطين الأصليين القدماء قد كانوا كلهم عرباً هاجروا من جزيرة العرب إثر الجفاف الذي حلَّ بها ، فعاشوا في وطنهم الجديد "كنعان" أكثر من ألفي عام قبل ظهور النبي موسى وأتباعه على مسرح الأحداث ، وقد أخذ الموسويون بعد ظهورهم في أرض كنعان بلغة الكنعانيين وثقافتهم وحضارتهم وتقاليدهم ، هذه حقيقة تاريخية ثابتة ،أيدتها المكتشفات الأثرية الأخيرة وأخذ بها العلماء بالإجماع تقريباً إلاَّ أن أكثر الكتاب العرب الذين كتبوا في تاريخ حضارة العرب لم يتناولوا هذا الدور في بحوثهم إلاَّ عرضاً ، ولعل مرد ذلك إلى اصطباغ مصادره بصبغة اختصاصية تنحصر بالبحوث الآثارية .
لذلك انحصرت بحوثهم في عصور الجاهلية على الأكثر فتركوا بذلك فراغاً في تاريخ فترة ما قبل عهد النبي موسى في الأدب العربي ، وهي الفترة التي عدها اليهود بداية تاريخهم من غير أي سند علمي أو واقع تاريخي ، وقد جاراهم في ذلك حتى الكُتاب العرب معتمدين على الكتابات اليهودية والأجنبية التي قبلوها على علاَّتها من غير تمحيص ( [4]) .
ويقول المؤرخ مصطفى الدباغ في الجزء الأول من موسوعته الضخمة "بلادنا فلسطين" إن هؤلاء الساميين هم جميعاً طبقات متتابعة من العرب وإن اختلفت أسماؤهم ، وإن بلادهم جزيرة العرب ظلت منذ العصور المتناهية في القدم خاصة بهم ، وما دراستنا لتاريخهم إلاَّ دراسة لتاريخ بعض الأقوام العربية البائدة ، ويرى عدد من ثقات المؤرخين الأوروبيين أن العرب والساميين شيء واحد وقال سْبرنْغر أن جميع الساميين عرب ( [5]).
إن اعتبار الكنعانيين بالذات ساميين عرباً أم ساميين فقط لقضية جدلية ، أما الثابت تاريخياً فهو وجود العديد من القبائل والشعوب العربية على أرض فلسطين قبل الفتح العربي الإسلامي بقرون عديدة ن وحتى من عهد النبي موسى ن ومن هؤلاء العرب العمالقة ،ومنهم القبائل العربية التي نقلها سرجون الثاني إلى السامرة ،ومنهم القبائل التي جاءت البلاد قبيل الفتح .
ومما يميز تاريخ فلسطين منذ القرن الخامس عشر ق.م إلى أوائل القرن الثاني عشر ق.م أنه تعرض لسلسلة من غزوات الحثيين و المصريين وكثيراً ما أصبحت البلاد مسرحاً للقتال بين الجيش الحثي والجيش المصري،وكثيراً أيضاً ما ثار السكان على الاحتلال المصري الفرعوني الذي كانت نهايته بالتدريج بسبب ضعف حلفاء رعمسيس الثالث .
ويعد الفراعنة نازع الكنعانيين وهم السكان الأصليون ،قومان في عصر واحد :"الفلسطينيون" أو الفلسطيون الذين جاءوا من البحر و"الإسرائيليون" الذين قدموا من الصحراء، ولم يصمد الكنعانيون كثيراً أمام الغزاة الجدد وخصوصاً أن البلاد كانت في حالة اقتصادية سيئة نتيجة الحملات التأديبية التي كان يرسلها الفراعنة ،ونتيجة الجزية التي فرضوها عليهم ،وقد تمكن القائد الإسرائيلي يوشع من دخول فلسطين على الرغم من بسالة الكنعانيين وشجاعتهم .
الكنعـانيـون
وبينما كانت فلسطين، في عصور ما قبل التاريخ، آهلة بالسكان، تعرضت في أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد لموجة عربية (سامية) كبيرة، وهي الموجة المعروفة باسم " الآمورية – الكنعانية" التي تعاظم أمرها قبل عام (2500) ق.م. فنزل الآموريون داخل بلاد الشام وجنوبها الشرقي (شرقي الأردن)، واستوطن الكنعانيون ساحلها وجنوبها الغربي (فلسطين).
والكنعاني على وجه الاجمال، معتدل القامة، ممتلئ الجسم، عريض الأنف، ضخم الشفتين، بارز الذقن، كثيف الشعر وجلود في الأعمال الشاقة.
اختلف العلماء في تفسير معنى كلمة "كنعان" فبعضهم ذكر أن "كِنَع" أو " خَنَع" كلمة سامية بمعنى الأرض المنخفضة. وقد دعى الكنعانيون باسمهم هذا لنزولهم الأراضي السهلية واستقرارهم فيها تمييزاً لهم عن غيرهم الذين نزلوا الجبال والمرتفعات. والحقيقة أنهم سكنوا الجبال كما استقروا في السهول.
وغيرهم ذهب إلى أنها كلمة (حورية) مشتقة من كلمة (Kanggi) التي تعني صبغ الأرجوان الذي اشتهر به الكنعانيون. والذي نرجحه أن الكنعانيين دُعوا بهذا الاسم نسبة إلى جدهم الأول "كنعان" كما هي عادة العرب في تسمية قبائلهم، فيقولون "بنو مخزوم" و" بنو لَخْم" و"بنو تميم" و"بنو هاشم" و"بنو كنعان"... و"بنو كنعان" هؤلاء كانوا يقيمون في بادئ أمرهم، في أرضهم السهلية الواقعة على الساحل الشرقي للخليج العربي. وقد نسبت إليهم وسميت "بأرض كنعان"[6]. ولما نزحوا منها ونزلوا الشام حملوا معهم اسمهم واسم بلادهم الذي أعطوه لوطنهم الجديد.
والكنعانيون شديدو الصلة بالآموريين. فهما فرعان من قبيلة كبرى واحدة تحركت في هجرة واحدة لا في هجرتين مختلفتين. تعد لغة الآموريين والكنعانيين لهجتين من فروع كتلة اللغة السامية (العربي) السورية. فلهجة الكنعانيين شبيهة بلهجة الآموريين لا تختلف عنها أكثر مما تختلف اللهجات الشامية اليوم- من سورية ولبنانية وفلسطينية – بعضها عن بعض. حتى أن بعض المؤرخين ذهب إلى أن الآموريين هم الكنعانيون. والكنعانيون هم الآموريون.
قال أنيس فريحة: ] حوالي 2200 ق.م. بدأ تسلل قبائل عربية بدوية من شمالي الجزيرة العربية على نطاق واسع. وقد انتشرت هذه القبائل في سهول سوريا الشمالية الشرقية وقد اتجه بعضها غرباً جنوباً إلى شرق الأرض وتلال القدس وجبال لبنان. أما الذين تاخموا البحر، فقد عرفوا بالكنعانيين، ومن الكنعانيين كان الفينيقيون. واتجه البعض الآخر شرقاً جنوباً واكتسحوا بابل، ومنهم كانت سلالة حمورابي الآمورية[.[7]
وذكر بعض المؤرخين أن الكنعانيين كانوا في بادئ أمرهم يقطنون سواحل الخليج العربي الغربية، قبل نزوحهم إلى سواحل الشام وفلسطين. وأن سفنهم مخرت مياهه قبل أن تنزل في البحر الأبيض المتوسط. فكانوا يتاجرون مع الهند وإيران وسواحل الجزيرة العربية الجنوبية بل وافريقية.
ومن الذين قالوا بهجرة الكنعانيين من الخليج العربي "هيرودوتس Herodotus - (مؤرخ يوناني 484 -422 ق.م. ساح في بلدان الشرق الأدنى. ولما عاد إلى بلاده كتب تاريخ تلك الأقطار ) نقلاً عن علماء صور الذين ذكروا له ذلك. و" إسترابو " بالوشم والقصيم فالحناكية. ومنها ساروا في الطريق التي يسلكها الحجاج في كل سنة، حين عودتهم من المدينة إلى دمشق[8].
وقال المرحوم أمين الريحاني: ] ما أجمع عليه المؤرخون والأثريون أن الفينيقيين مثل العرب ساميون. بل أنهم عرب الأصل. نزحوا من الشواطئ العربية الشرقية على خليج فارس (فارس العربي)، ومن البحرين إلى سواحل البحر المتوسط في قديم الزمان.
ويستنتج من درس الآثار التي وُجدت في المقبرة القديمة في البحرين أن هجرتهم كانت قبل عهد الشبه، في أواخر العهد الصواني، يوم لم يكن الإنسان يحسن شيئاً من الكتابة. إذ لا كتابة البتة في مقابر البحرين الكنعانية[[9].
وقد ذكر المؤرخ العربي أبو جرير الطبري المتوفى عام 310هـ : 922م. الكنعانيين في تاريخه أنهم من العرب البائدة، وأنهم يرجعون بأنسابهم إلى العمالقة. وأخذ عنه ابن خلدون وغيره من المؤرخين[10].
وقال الطبري: ] عمليق أبو العماليق. كلهم أمم تفرقت في البلاد، وكان أهل المشرق وأهل عُمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر منهم، ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم "الكنعانيون"، ومنهم كانت الفراعنة بمصر[11][ .وقال أيضاً :[ والعماليق قوم عرب لسانهم الذي جلبوا عليه لسان عربي و] إن عمليق أول من تكلم بالعربية[12][. و]... فعاد وثمود والعماليق وأُميم وجاسم وجديس وطسم هم العرب[13][.
وقال ابن خلدون عن الكنعانيين: (وأما الكنعانيون الذين ذكرهم الجغرافي الروماني 64 ق.م. -19 م. الذي أشار إلى المقابر الموجودة في جزر البحرين بأنها تشابه مقابر الفينيقيين (إن الرأي السائد بين الذين عنوا بدراسة وفحص هذه المقابر بأنها مقابر فينيقية، ففي عام 1889م جاء " تيودور بنت-Theodore Bent" العالم الانجليزي إلى البحرين وأجرى تنقيباً في مقابرها. وبعث بشيء منها إلى المتحف البريطاني. ولما درستها لجنة المتحف قررت أنها من مقابر الفينيقيين وذلك قبل هجرتهم إلى سواحل الشام وفلسطين) وأن سكان هذه الجزر يذكرون أن أسماء جزائرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية. وقال أيضاً إن في هذه المدن هياكل تشبه الهياكل الفينيقية الشامية.
وقد عثر رجال شركة الأرامكو في الأحساء على مقابر أُخرى تشبه بصورة عامة المقابر التي عثر عليها في البحرين، كما عثر الرحالة " جون فلبي" على مثل هذه المقابر في " الخَرْج" و" الأفلاج" من أعمال نجد. وعلى رأيه ربما كان الفينيقيون من هاتين المنطقتين، حيث هاجروا بعدئذٍ إلى سواحل الخليج العربي.
وفضلاً عما تقدم فهناك أسماء في شرق الجزيرة العربية تحمل نفس أسماء المدن التي أنشأها الفينيقيون على الساحل الشامي. مثل " صور " على ساحل عُمان، و" جُبَيْل " على ساحل الأحساء و" ارواد –Aradus" وهي الاسم القديم لجزيرة "المحرِّق".
وقد زار " نيركس –Nearchus" أمير البحر عند الإسكندر المكدوني مدينة الشمس "صيدا" على شاطئ الجزيرة العربية الشرقي. ولم يتمكن أحد بعد من تعيين موقع "صيدا" هذه حتى اليوم.
ويذكر جان جاك بيريبي ([14])أن الفينيقيين انطلقوا من البحرين إلى البصرة سالكين طريق الهلال الخصيب إلى الساحل الشامي حيث بنوا مدنهم وأنشأوا حضاراتهم الرفيعة التي نشروها في البحر الأبيض المتوسط.
وأما " فرنسيس لزمان" مؤلف تاريخ الشرق القديم فيرى أنهم سلكوا طريق القوافل من القطيف إلى وادي غطفان وجبل طويق في نجد. ثم ذكرهم ابن خلدون على أنهم من العمالقة، كانوا قد انتشروا ببلاد الشام وملكوها [15]. وقال أيضاً: (أول ملك كان للعرب في الشام فيما علمناه للعمالقة[16]. وقال أيضاً: (وكانت طَسْم والعماليق وأُميم وجاسم يتكلمون بالعربية[17]).
وقد جاء في الجزء الثاني من "لغة العرب" (والظاهر أنهم (أي الكنعانيين- الفينيقيين) من أصل عربي فقد نقلت التقاليد القديمة أنهم ظعنوا من الديار المجاورة لخليج فارس إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط).
وقال الدكتور جيمس هنري برستيد: ( وسكان هذه البلاد الآسيوية (سورية) ساميون، لا يبعد أن يكونوا من مهاجري صحراء العرب، والمعروف أن مثل هذه الهجرة تكررت في العصور التاريخية. ويقال لهؤلاء القوم الحاليين بالجهات الشمالية "الآراميون" وبالجهات الجنوبية "الكنعانيون"[18].
(قال رولنسون أن أصل الفينيقيين (الكنعانيين) من سكان البحرين في الخليج العربي. ظعنوا من هناك إلى ساحل الشام منذ نحو خمسة آلاف سنة. وأنهم عرب بأصولهم وأن هناك مدناً فينيقية أسماؤها أسماء فينيقية مثل صور وجبيل[19].
وعليه فإن الكنعانيين دخلوا بلادنا وهم متقدمون في المدنية، فأخذوا يتابعون نشاطهم ويمارسون حضارتهم على نطاق أوسع من وطنهم الجديد.
ونسبة إلى هؤلاء الكنعانيين دُعيت البلاد بأرض كنعان. فكان أقدم اسم سميت به بلادنا. وقد بقيت لهم السيادة والسلطة في البلاد مدة تنوف عن ألف وخمسمائة سنة. وذلك من نحو 2500 ق.مز إلى نحو 1000ق.م. حيث تمكن اليهود من إعلان مملكتهم.
حـدود أرض كنـعـان:
يتضح من مراسلات " تل العمارنة " التي بتاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، إن المصريين كانوا يطلقون لفظة " كنعان" على جميع السواحل السورية.
و"العهد القديم" الذي هو أهم مصدر لنا في هذا الشأن اختلف في تحديد " أرض كنعان " في مختلف أسفاره فتارة يطلقها على الساحل الشامي إلى حدود مصر[20]، وأحياناً يضيف إلى " كنعان" القسم الجبلي [21] وغور الأردن[22].
يطلق اسم " أرض كنعان " على سكان الجبال والسهول ومنطقة بئر السبع الواقعة في جنوبي البلاد، والتي كانت تعرف باسم " النجب –Negeb " بمعنى الأرض الجافة([23]) .
ويحدد الدكتور جورج بوست أرض كنعان بالحدود الآتية: ( وكانت حدودها الأصلية مدخل حماة (بمعنى الطريق إلى حماة) شمالي لبنان إلى الشمال وبادية سورية والعرب إلى الشرق وبادية العرب إلى الجنوب. ولم تمتد إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في كل الأماكن إلى الغرب لأن الفلسطينيين ما زالوا إلى أن انقرضوا يقطنون ذلك الساحل([24]) بوحدة مستقلة قوية. ولذلك اشتمل على عدد كبير من المماليك المدينية الآمورية – الكنعانية المختلفة. فكانت كل منها تسعى لأن تضم أكبر عدد ممكن من الأراضي والقرى المجاورة لها. وكان لكل من هذه المدن ملكها وحكومتها ومعبودها وكهنتها. وكان الملك في بعض الأحايين، يجمع في شخصه منصبي الحاكم والكاهن الأكبر. يأتمر الجميع بأوامر الملك الذي كان أحياناً يتقيد بمجلس المدينة العام المؤلف من رجال الدين والقضاء والأغنياء والأشراف. وكثيراً ما كانت المدن الكنعانية بيد ملوك صالحين يقضون بالعدل ويحفظون حقوق الأرامل واليتامى. وكان الأبناء أو الإخوة يخلفون آباءهم أو إخوتهم على العرش على الأغلب. وقد ينتقل الملك إلى أسرة أخرى أو تنتزع الإمارة وتسلب نتيجة ثورة عناصر تصبح لها الغلبة وحسن الضرورة كانت تعقد مؤتمرات من المدن الكبرى للتداول في الشؤون العامة المشتركة.
ولم تكن المدن والإمارات الكنعانية ميّالة بطبيعتها إلى توحيد كلمتها وتحسين إرادتها، بل كان الشقاق سائداً بينها طمعاً في نهب الأمتعة وضم الأراضي إليها.
(قال المؤرخ جورج رولنسون: ما تأسس حلف من الولايات الفينيقية كلها مرة واحدة، حتى ولا حلف موقت. وما كان يرد إلى الولاية المهددة أي نجدة من الولايات الأخرى شقيقاتها. الانطواء وتضارب المصالح الخاصة، وضعف الحس القومي، كانت كلها تحول دون توحيد الكلمة والعمل في أيام الخطر والشدة, وكانت كل ولاية تسقط وحدها، فتتبعها الولايات الأخرى واحدة واحدة.
فما كان أولئك الفينيقيون ليدركوا معنى التعاون، ولا مالوا يوماً إلى التضامن العام الذي فيه خير القومية الواحدة والوطن. ولنا أن نقول ما كان هناك وطن واحد، ولا حس قومي واحد، حتى ولا إله واحد يجمع شملهم، ويربطهم برابطة وطنية واحدة.
وما عرف أبناء مدنهم المنحدرون من نسل واحد معنى الإخاء القومي، ولا أدركوا مغزى الحياة الوطنية. وقل فوق ذلك أنهم كانوا متعادين في بعض الأحيان، متخاذلين على الدوام[25]).
إلا أن هذه الإمارات كانت ولا شك ، على جانب عظيم من الحضارة والمدنية في أمور أُخرى مما سنذكره في حينه.
والكنعانيون الذين نزلوا الساحل أمام جبل لبنان عرفوا بعد القرن الثاني عشر أو الحادي عشر قبل الميلاد بالفينيقيين. فالكنعانيون والفينيقيون شعب واحد، نسباً ولغة وديناً وتمدناً، انقسم إلى قسمين: سكن الأول فلسطين والثاني الساحل الشامي من مصب نهر العاصي إلى جنوبي الكرمل. ومع أن اسم الفينيقيين أصبح أشهر من اسم كنعان عليهم إلا أنهم ظلوا محافظين على نسبهم الكنعاني. وبقوا يسمون أنفسهم كنعانيين ولا يرضون عنه بديلاً.ونظراً لما بين بيئتي القسمين الجغرافيين من الاختلاف لم يتشابها تماماً في حياتهما. فالساحل السوري صيّر من كنعان أمة اشتهرت بملاحتها وخوضها عُباب البحور. وأما فلسطين فلعدم وجود موانئ صالحة على سواحلها، ولتعرضها للغارات المتعددة من قبل الأمم القديمة، اتجه كنعانيوها إلى الأعمال الزراعية وإلى الجبال والقلاع، وأحاطوا مدنهم بأسوار يلتجئون إليها كلما شعروا بقدوم غازٍ أو فاتح جديد.
وحصل الفينيقيون على أكبر نصيب من العمران عن طريق التجارة، كما أن إخوانهم في الجنوب اهتموا بالتغلب على صعوبات الحاجات العمرانية بترفيه حالتهم الاقتصادية على أساس زراعة راقية غنية جداً، اتخذت مثالاً نقلت عنه الأمم الأخرى.
ومما يجدر ذكره، ونحن بصدد الحديث عن الكنعانيين أن ابن خلدون المؤرخ العربي المغربي الكبير وكثير ممن درس تاريخ المغرب يؤكدون بأن الأمازيغ أصل وأقدم سكان ليبيا والمغرب العربي كافة – هم من الكنعانيين [26]. دعوا بذلك نسبة إلى جدهم " مازيغ بن كنعان[27]"، وارتحلوا من ربوع الشام إلى شمالي إفريقية عن طريق مصر.
وقد أطلق اللاتينيون، ومن والاهم، اسم " البربر" على الأمازيغ وما زالوا يعرفون به إلى اليوم. وهذا وأن معظم البربر يعتقدون بأنهم مشارقة الأصل.
كان هؤلاء الكنعانيون المغاربة ينقسمون إلى عشائر متعددة وقبائل صغيرة محلية، حضارتهم كنعانية ترتكز على الزراعة.
وجاء في معجم البلدان/1/368: وإنما هم (أي البربر) من الجبّارين الذين قاتلهم داود وطالوت، وكانت منازلهم ناحية فلسطين، فلما أخرجوا من أرض فلسطين أتوا المغرب فتناسلوا به وأقاموا في جباله).وقال مثل ذلك المؤرخ المسعودي المتوفى عام 346 هـ ([28]).وفي تاريخ أبي الفداء (هو الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة. توفي سنة 732 هـ ) أن الكنعانيين بعد تفرقهم سارت طائفة منهم إلى المغرب([29]).
وفي نحو 1000ق.م. نزل كنعانيو الشرق – الفينيقيون – سواحل المغرب العربي واستقروا فيه، وأسسوا مع أبناء عمهم الأمازيغ، أسواقاً لتجارتهم أصبحت فيما بعد مدناً قائمة بذاتها، تمتد على سواحل المملكة المغربية الواقعة على المحيط الأطلسي ونتيجة لهذه المستعمرات أو المدن اختلط كنعانيو المشرق مع كنعانيي المغرب اختلاطاً وثيقاً فانتشرت اللغة الكنعانية بين الأمازيع الذين اعتنقوا عقائد أبناء عمهم الفينيقيين الدينية وتطبعوا ببعض عاداتهم وتعلموا منهم أصول التجارة والصناعة وغيرها.
وقد أطلق اسم كنعان على المنطقة الساحلية التي تقع بين مصب نهر العاصي شمالاً وحدود المملكة المصرية جنوباً قرب العريش وتضم هذه المنطقة فلسطين وما سمي فيها بعد فينيقية وأما الكنعانيون فيختلف العلماء في أصلهم فمنهم من قال أنهم الأقوام الذين تسللوا بين العموريين في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد ويدعوهم كلود شيفر وكاثلين كنيون حملة الأطواق ومنهم من قال الأقوام العمورية التي استوطنت في الأراضي المنخفضة من فينيقية وفلسطين ويقوي الأخذ بالرأي الثاني الدلائل التي تشير إلى أن حملة الأطواق كانوا في الغالب أقواماً حورية لا سامية وأنهم جاؤوا من الشمال لا من الشرق أو الجنوب مهبط الأقوام السامية والكنعانيون كانوا دون أدنى شك من أصل سامي والمعلوم أن العموريين الذين جاؤوا من الصحراء من الصحراء شنوا في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد حملات حملات كثيرة على المدن الفينيقية والفلسطينية التي ازدهرت في الألف الثالث قبل الميلاد وتدعى حضارتها حضارة العصر البرونزي القديم ودمروها شر تدمير وفتكوا بأهلها وأفنوهم عن بكرة أبيهم ونشروا الفوضى والخراب في المنطقة لمدة أربعة قرون وعندما قامت الأسرة الثانية عشرة في مصر في القرن العشرين قبل الميلاد أعيد النظام إلى نصابه وتأسست مدن جديدة على أنقاض المدن التي دمرها العموريون.
تدعى هذه المدينة الجديدة حضارة العصر البرونزي المتوسط وقد حلت محل حضارة العصر البرونزي القديم التي دمرها العموريون وتدل أسماء ملوك بعض المدن على أن اللغة كانت لغة أو لهجة عمورية واستوطن بعض العموريين في المنطقة الجبلية وبقوا على اسمهم واستوطن بعضهم الآخر في الأرض المنخفضة في فلسطين وفينيقية وسموا كنعانيين وكلمة كنعان مشتقة من كلمة كنع ومعناها اللغة الفينيقية أو الكنعانية انخفض ويشمل عهد الكنعانيين العصرين الأثريين البرونزي المتوسط والبرونزي المتأخر.
ومن المدن التي أنشأها العموريون في القرن العشرين والقرن التاسع عشر ق.م جبيل وصيد وصور وأوغاريت (رأس شمرا) في فينيقيا ،ومجدو وتل العجول (غزة القديمة) وبيتين وبيسان وبيت شمش (عين شمس حالياً) وتل الدّوير (لاخيش قديماً) وتل الجزر(جيزر قديماً) وحاصور(تل القاضي حالياً) وأريحا والقدس (يبوس قديماً) وأهم هذه المدن جبيل لكونها مصدّرة الأخشاب من جبل لبنان إلى مصر ،وفي زمن الأسرة الثانية عشر كانت أرض كنعان تابعة لمصر بمحض إرادتها لما جنته من الثراء عن طريق التجارة مع وادي النيل .
وتعرّض فن كنعان للمزيد من التأثير المصري ،وبين الحلي التي وجدت في قبر"أبي شيمو" و"ابشموابي" جواهر مصنوعة محلياً ولكنها منقولة عن المجوهرات المصرية.
وفي أواسط القرن الثامن عشر ق.م تعرضت أرض كنعان لهجمات شنتها أقوام جاءت من شمال العراق تدعى الأقوام الحورية التي غزت أرض كنعان عندما ضعفت السلطة المركزية في مصر بعد زوال الأسرة الثانية عشر،وقد جمع الحوريون عدداً كبيراً من المرتزقة من كنعان وانقضوا على مصر واحتلوها برمتها لمدة 150-180 سنة على وجه التقريب،وكان بين المرتزقة زمرة من العيبرو ويسمي المؤرخ مانيثون هذه الأقوام الهكسوس ،أي الحكام الأجانب وفي زمرة الأسرة الثامنة عشر طرد المصريون الهكسوس من مصر ولاحقوهم حتى مدينة شاروحين في جنوب فلسطين وبعد هذا لا يعثر لهم على أثر إذ اندمجوا بالكنعانيين وضيّعوا شخصيتهم .
لم ينس المصريون ما فعلت بهم أقوام جاءت عن طريق كنعان وإن لم تكن كنعانية ،فأخذوا يشنون الهجمات على كنعان ،وأول من غزا كنعان كان تحتمس الأول،ولكن غزوته كانت غزوة طارئة تلاشت ملامحها بعد أن عاد إلى مصر،ولكنها فتحت أعين الكنعانيين فأخذوا يتحسبون لغزوات تابعة وأقاموا حلفاً بينهم وترصدوا للحملات المصرية في مضيق وادي غارة قرب مجدو.وعندما اعتلى تحتمس الثالث عرش الفراعنة شنّ ست عشرة حملة على المدن الكنعانية والسورية مبتدئاً بمجدو حيث قهر أمير قادش واستولى على أرض كنعان برمتها،وحصلت ثورات كثيرة على الحكم المصري بعد هذا ولكن الفرعون أخمدها.
أذعنت أرض كنعان للحكم المصري لأن الاستقرار الذي رافق حكم الفراعنة حسّن أحوال الكنعانيين وشجّع تجارتهم وصناعتهم فتركوا للمصريين حمايتهم من الغزاة المتربصين بهم في الشرق.
ودامت هذه الحال حتى مجيء أمنحوتب الرابع أو أخناتون الذي لم يكن يكترث بأمور الدولة والحفاظ على الأمن بل صبّ كل جهده على الإصلاحات الدينية وكان أول من بشّر بالتوحيد.
واستغل جيران الكنعانيين من حثيين وعموريين هذا الظرف وكان ملك الحثيين "شوبلوليوما" قد حرض "عبد عشرتا" أمير العموريين على الهجوم على المدن الكنعانية مستعيناً بالمرتزقة من الخبيرو ليفصلها عن منطقة نهارين الخصبة في شمال سوريا التي كان يطمع بها،فاستغاث الكنعانيون بالفرعون أمنحوتب الثالث فأغاثهم وصدّ العموريين ولكن بعد مماته واعتلاء ابنه أخناتون عرش الفراعنة أعاد العموريون الكرّة وهاجموا المدن الكنعانية ،ولم تُجْدِ نفعاً استغاثات ملوكها بالفرعون فاحتلها العموريون الواحدة بعد الأخرى ابتداء من سميرة شمالاً فجبيل فبيروت فصور فأورشليم
وعاث الخبيرو فساداً في الأرياف الفلسطينية ودمّروا قراها،واحتل "شوبلوليوما" ملك الحثيين مدينة أوغاريت (رأس شمرا حالياً) وقد عثر في تل العمارنة على الرسائل التي تبودلت بين الملوك الكنعانيين والبلاط المصري أثناء هذه الأحداث الرهيبة.
وعند قيام الأسرة التاسعة عشر في أواخر القرن الرابع عشر والقرن الثالث عشر ق.م تمكن الفراعنة من طرد العموريين من أرض كنعان وإعادة سيطرتهم عليها فرحب بهم الكنعانيون أجمل ترحيب،واضطر المصريون بعد الحروب التي نشبت بين الحثيين والفرعون رعمسيس الثاني إلى أن يكتفوا بأرض كنعان ويتركوا مناطق سوريا الشمالية تحت سلطة الحثيين.
وفي أوائل القرن الثاني عشر ق.م ظهرت في الأفق أقوام إيجبية هاجمت مصر وأرض كنعان من الجنوب والشمال بشكل كمّاشة . وبالرغم من أن رعمسيس الثالث صدّهم في معركة بلوزيون (قرب بور سعيد) البحرية فقد اضطر إلى أن يفسح لهم المجال للاستيطان في جنوب فلسطين ،وقد دمّرت الموجة التي انصبّت على أرض كنعان من الشمال رأس شمرا وجزيرة أرواد في طريقها واندمجت بالكنعانيين فنشأت بذلك الأقوام الفينيقية .
وفي فلسطين أرض كنعان الجنوبية تمكن الفلسطيّون الذين جاءوا من سواحل البحر الإيجي من إخضاع البلاد وحماية المدن من الإسرائيليين الذين أصبحوا بدورهم تحت سيطرة الفلسطيّين حتى جاء الملك سيدنا داوود.
وأهم مدينتين كنعانيتين هما جبيل في لبنان ومجدو في فلسطين،وكانت مجدو محصنة بسور ذي بوابة مؤلفة من ثلاثة أبواب الواحد تلو الأخر تحميها أربع غرف للحرس،غرفتان من كل جانب،وكان السور مائلاً من الخارج ومبنياً بحجارة ضخمة ،ووجد في داخله معبد وقصر،وكان الكنعانيون في مجدو يدفنون موتاهم في قبور منحوتة في الصخر، وكانت هذه تحتوي عادة على أكثر من مدفن.
وأهم مزايا هذا العصر صناعة الخزف الذي يعد أجمل ما صنع حتى العصر اليوناني،وكان الكنعانيون يفضلون الشكل الإجاصي،وكانوا أول أمرهم يطلون الأواني باللون الأحمر القرمزي ويصقلونها صقلاً لمّاعاً ،ثم أصبحوا يطلونها باللون العاجي ويدهنونها باللونين الأحمر والبني. وتنوعت أشكال الأواني من جرار وأباريق وغطاسات وصبابات وطاسات مجأجأة وسرج وأكواب.
وكان الكنعانيون يصنعون الأواني من النحاس والفضة والذهب كما ظهر في جبيل،وازدهرت صناعة المعادن فصنعوا الفؤوس والخناجر والرماح ،وأما رؤوس النبل فلم تظهر إلاّ في أواخر عهد الكنعانيين في العصر البرونزي المتأخر.ومن أدوات الزينة الأشكال الحلزونية التي كانت تستعمل لتجعيد الشعر والدبابيس المثقوبة المزودة برأس بشكل بطيخة ،وفي مدينة جبيل ترك الكنعانيون عدداً كبيراً من التماثيل للإله رشف،كما أنهم صنعوا تماثيل لجنود يحملون الأسلحة المختلفة.
وكذلك كانوا يصنعون من الطين أيضاً تماثيل للآلهة والأشخاص والحيوانات ،وكان عصر الكنعانيين غني بالحلي والمجوهرات،فهنالك أقراط وخواتم وأساور من الفضة والذهب واستُعمل الخرز بكثرة وكان يصنع من العقيق الأحمر المحزز،ومن الحجر الجيري.
باشر الكنعانيين في أوائل هذا العصر بحفر العاج فأخذ هذا الفن يترعرع حتى بلغ أوجه في القسم الثاني من ذلك العهد،وكانوا يصنعون الخناجر الذهبية للاستعمال في الحفلات ،كما كانوا يتحلون بالقلائد المصنوعة من الذهب والمرصّعة بالحجارة الكريمة،وفي قبر "أبشموابي" وجد كنز من المجوهرات المصنوعة من الذهب والفضة والمرصعة بالحجارة الكريمة.
وفي العصر البرونزي المتأخر قلّ عدد المدن المحصنة وصغر بعضها وتضاءل الأثاث الجنائزي كثيراً بالنظر لفقر البلاد بسبب الضرائب الباهظة التي كانت كنعان تدفعها لمصر.
وأصيب الفن كذلك بالاضمحلال والانحطاط ،وأما الهندسة فقد أصابها بعض الشلل وابتعدت عن الدقة وإن لم يتغير شكلها.
ويظهر هذا الانحطاط جلياً في صناعة الخزف ،إذ فقدت الأواني الدقة والعناية المألوفتين في العصر السابق وكاد الصقل يكون معدوماً ،وقد حاول الخزافون تغطية هذا الانحطاط بتلين الآنية ولكن بطريقة بعيدة عن الذوق ،وفي أواسط هذا العصر استوردت أواني كثيرة من قبرص ومن ميسين في بلاد اليونان وقد حاول الخزافون الكنعانيون تقليد الأواني المستوردة ولكن محاولتهم أخفقت،فالأواني المنقولة عن الأواني المستوردة كانت قبيحة خالية من رونق الخزف القبرصي والميسيني الأصلي.
وفي هذا العصر تلاشت الفؤوس الحربية وحلت محلها فؤوس جديدة غير مزودة بثقوب ،وظهرت خناجر جديدة منقولة عن الخناجر الميسينية ذات يد من خشب فوق أساس من البرونز.
وظهرت لأول مرة رؤوس النبل المصنوعة من البرونز ويشبه شكلها ورق الغار بزيادة قطع على جوانبها لتساعدها على الرسوخ في الهدف.
رابطة ادباء الشام