يوميات آرثر وافل فى بلاد الحرمين 1908م
--------------------------------------------------------------------------------
كتبهاسليمان ناصر الدرسوني ، في 12 أبريل 2010 الساعة: 23:03 م
رحلة الى جزيرة العرب
تلقى " آثر وافل " تعليمه في – ونشستر – وساندهرست، وعمل في فرقة – ويلز – العسكرية وعمل عام 1904م لبلاده في سويسرا وما جاورها، واستقر بعد تركه العمل في شرق أفريقيا، متنقلاً بين بتسوانا لاند إلى منطقة الزمبيزي، لكنه سرعان ما لبى إغراء البلاد العربية للسفر والمغامرة، وقام متنكراً عام 1908م برحلة إلى الحج فزار مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعاد من هذه المغامرة سالماً، ثم عاد ثانيةً للبلاد العربية للقيام ببعض الاستكشافات منطلقاً من – الحديدة – فوصل إلى صنعاء، حيث انتهت الشكوك حوله إلى حصاره فيها، وأعيد إلى الحديدة دون أن يتحقق له ما أراد، وكتب عن سفرتيه كتاب رحلة نشره عام 1912م وعاد إلى شرق أفريقيا، حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى وهو هناك، والتحق بالخدمة العسكرية بمهمة مقاومة التمدد الألماني، وقُتل في معركة بشرق أفريقيا عام 1916م.
وبعد مقدمة طويلة استعرض فيها تاريخ الجزيرة العربية، وظهور الإسلام وانتشاره، ثم شرح سبب أدائه للحج " عام 1908 – 1909م، بداية بسبب حب الاستطلاع، وبسبب أخص التأقلم مع حياة العرب، مع تطلعي لرحلات مستقبلية، بأهداف استكشاف أعماق الجزيرة العربية، ولذلك فإن التخفي في هيئة – حاج – مفيد للمسافرين في البلاد الإسلامية ".
واتخذ – مسعودي – خادماً له، وهو مواطن من ممبسا – المنطقة السواحيلية – في شرق أفريقيا، كما اتفق لاحقاً مع – عبد الواحد – وهو مواطن من حلب لمساعدته في رحلته " واجتمع ثلاثتنا في مرسيليا في 23 سبتمر 1908م، وكان موسم الحج يقع في يناير من العام التالي، ولما كان هدفي المقام في المدينة – المنورة – لبعض الوقت، فلم يكن تحركنا مبكراً، كذلك كنت أرغب قضاء بعض الوقت في دمشق لأقنع نفسي بأن انتحالي لشخصية مشرقية فعال، قبل دخولي للبلاد المقدسة ".
وكانت العقبة الأولى الحصول على جواز سفر، وقد حصلت عليه باعتباري مواطناً من زنجبار متجه إلى مكة، تحت اسم " علي بن محمد ".وتوجه ثلاثتهم إلى جنوة في إيطاليا مع رفاقه، واستقلوا منها سفينة استغرق وصولهم إلى الإسكندرية تسعة أيام، وفي قسم الجمارك " اعتقلنا باعتبارنا مشبوهين لما نحمل معنا من أسلحة – مسدسات وذهب، وساعات وأدوية، وهدايا أخرى، وأحيل أمرنا للباشا – حاكم الاسكندرية، وكان الوقت رمضان، ولما حضر متأخراً تعرضنا لتفتيش ثان، وتحمل – عبد الواحد مسؤولية كل مخالفاتنا، واحتجز متاعنا في الجمارك لنتسلمه عند إبحارنا إلى بيروت " وكان أول ما قام بعد استراحة في الفندق الذهاب لحمام تركي، وحلق شعر رأسه ليبعد عنه شبهة – الأوروبي – " وتغلبت على عائق اللغة بادعاء أني من زنجبار التي يتكلم أهلها السواحيلية، ولا يحسنون العربية، وعندما أقابل من يحسن السواحيلية أدي له أني ولدت في مسقط، وأن لغتي هي العربية ".
وغادر الإسكندرية بعد أن أخذ صناديقه المحتجزة في الجمارك، واستقل سفينة مع ركابها من كل الجنسيات ومن كل الألوان: اليونان، الطليان، المصريون، العرب السوريون والأتراك، وقضوا يوماً في بورسعيد، وفي اليوم التالي وصلنا إلى – يافا – ميناء – القدس – وهنا دخلنا في منطقة السيادة العثمانية، وخضعنا للكرنتينة، كنا نستمتع بمنظر تبخير بقية الركاب ضمن احتياطات الكرنتينة " ومنها وصلت الباخرة إلى – حيفا – ومنها إلى ميناء بيروت، واستأجر غرفة معقولة النظافة في فندق بفرنكين لليلة الواحدة " كنت خائفاً لما علمت أن السلطات التركية تدقق في دخول الأجانب إلى أراضيها، وتدقق وتطلب وثائقهم الأصلية، وكانت مفاجأة سهولة تفييز جواز سفري، والتفتيش السطحي لما نحمله من صناديق، وعندما غادرنا السفينة وجدنا أنفسنا أحراراً نذهب حيث نشاء داخل الأراضي العثمانية، وجدت بيروت مدينة جميلة كنت أتمنى قضاء أيام بها، لكننا قررنا مواصلة السفر إلى دمشق التي وصلناها في 20 رمضان، ولما لم يعد مسافراً فتحتم عليه الصيام ..
وصف دمشق بأنها " أكثر المدن ازدحاماً وجمالاً في الشرق كله " ولأنه لن يتحرك إلى – المدينة المنورة إلا بعد شهر، فقد كان عنده من الوقت ما يستمتع به، ويقوي عربيت، ويعمق معرفته بشعائر الإسلام، والتعود على اللباس العربي، وما يجب أن يقال في كل مناسبة، " وأهم شيء للمسافر الأوروبي المتخفي، أن يكون ممثلاً قديراً، وأن يفتح عينيه جيداً، ويغلق فمه ".
وينصح – وافل – من يرغب من الأوروبيين في السفر في البلاد العربية " أن يسافر فقيراً معدماً، ويحمل معه 5 جنيهات، ويلبس أسمالاً، ولا شيء غير هذا " …
ومع اقتراب موعد انطلاق قافلة الحج الشامي، تجهز الرحالة بشراء الإحرام، وخيمة، وحصير، وعدد من الخِرج (جمع خُرج)، سكاكين، شوك، صحون، أدوات الطبخ، وحاويات الماء، وكمية معتبرة من الشاي "تركت مالي عند تاجر في دمشق، فأعطاني مقابله شيكين، واحد لوكيله في المدينة والياني لوكيله في مكة، حيث لا توجد بنوك فيهما "..
تكلف تذكرة السفر بالقطار من دمشق إلى المدينة أكثر قليلاً من 3 جنيهات استرلينية للفرد، وعندما استقل القطار "كانت عرباته في غاية الفوضى والازدحام بالعفش والركاب، ولا متسع فيها لشيء، علاوة على أن أماكننا المحجوزة أُخذت ".
أحضر الرحالة معه تموينه من المأكولات " بيض مسلوق، خبز، كعك " ولكن مع الجو المغبر في القطار ما أمكنني تناول شيء " لم يكن المكان في القطار مريحاً للنوم، فداهمته الملاريا في ليلته الثانية في القطار فأفسح له مرافقوه مكاناً ليتمدد، وقدموا له أحسن ما عندهم من طعام وفاكهة، وكان رد التحية من جانبه تقديم وابور – بريموس – يمكنه عمل الشاي في دقائق وقتما يشاؤون.. وبعد ثلاثة أيام على خط حديد الحجاز، وصل القطار إلى المدينة المنورة، حيث قدّر الرحالة سكانها بـ 30 ألفاً، تنحصر أعمالهم ومصدر رزقهم فيما يتعلق بالحجاج، وبالتالي فإنهم يعملون بجد لثلاثة أشهر، ثم لا يعملون شيئاً بقية شهور السنة، الأغنياء من أهل المدينة يملكون البيوت ويؤجرونها في الحج، والشباب يعملون كمرشدين، وأصحاب الدكاكين في بيعهم وشرائهم، وكذلك الحمالون والسقاؤون كلهم يحقق دخلاً من الموسم " المرشدون أو المطوفون أتعبوني في دخولي المدينة ومكة، ومهماتهم العناية بالحاج ومرافقته في الزيارة والطواف، وليس لأعمالهم تسعيرة محددة، ولهذا فبينهم تنافس على الفوز بالأثرياء من الحجاج خاصة مَن كان منهم يحمل عفشاً كثيراً ، ومعه خدم، ولهذا عملت الحكومة على تخصيص عدد من حجاج كل بلد لكل منهم، وجعلت لهم نظاماً للفصل في خلافاتهم وشكاوى الحجاج من خدماتهم، وحقق هذا النظام نجاحاً، وإذ كان على مرشد ومطوف تعلم لغة حجاجه وعاداتهم والعمل على تقديم خدمات مرضية لهم "…
وقد سبب هذا النظام مخاطر للرحالة، إذ كان عليه باعتباره من حجاج زنجبار الاختلاط عن طريق مطوفهم بحجاج بلاده، مما يعرضه لانكشاف أمره، وهنا انتحل صفة درويش العراق.
ووصف المسجد النبوي، وحركة العُبّاد داخله، والقبر الشريف، بناؤه والستائر على جدرانه، وقبري أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما، والروضة والمحراب، حيث كان يؤدي الصلوات المكتوبة، ويركع في الأماكن التي يطلب إليه النفل فيها " وأخذني مرشد يعرفني بمعالم المسجد النبوي مقابل دولار " وكان يتعرض داخل المسجد لأسئلة عن أصله، فمن قائل أنه من فارس، أو البصرة لكنه كان يرد بأنه درويش سائح في أرض الله، وقد نصحه صاحب المنزل الذي استأجره أن يلبس لباس أهل المدينة لتحاشي مثل هذه الأسئلة، ففعل ، كان يصلي في المسجد، وبعدها يتحول مستكشفاً .. بعد ثلاثة أسابيع ازدحمت المدينة بالحجاج، وأصبح من الصعب الحركة في شوارعها " كنت أقضي معظم الوقت في المسجد، حيث أجد الراحة سانداً ظهري على أحد أسطواناته ، متظاهراً بالقراءة، ومراقباً الناس ".
لفت نظر الرحالة وجود بضائع أوروبية تباع في المدينة، واستغرب وجود إعلان عن شوكلاته وبسكويت من صناعة إنجليزية، كما اشترى من سوق المدينة أحجاراً كريمة، وجيها، وجدها فيما بعد في القاهرة بنصف الثمن، ولم يجد في المدينة مَن يختص بها من هدايا تشترى، ولا كتباً تطبع فيها، لكن مرافقه – عبد الواحد – اشترى مخطوطات بثمن عال على أمل أن يبيعها في أوروبا، وأشار إلى المكتبة الملاصقة للحرم النبوي، وحمامين تركيين بالمدينة.
بعد ثلاثة أسابيع، بدأ الرحالة التفكير في التوجه إلى مكة المكرمة، وقلّب الخيارات المتاحة، فاختار مرافقة قافلة متجهة إلى ينبع فجهز ثلاثة جمال واحد منها بشقدف والباقيان للعفش، وصرف الشيك الذي كان معه من تاجر بالمدينة ودفع التزاماته من إيجار وغيره، وكانت هذه المرة الأولى التي يركب في الشقدف، تحركت القافلة في الصباح بعد فترة انتظار تحميل الجمال – وعدد جمالها 5000 – بالشقادف والعفش " كانت هناك حراسة جيدة، إضافة إلى أن الحجاج أنفسهم يحملون سلاحاً، وكلما توقفت القافلة نصب سوق وسطها للبيع والشراء، ويجلس قاض لمعاقبة المذنبين والفصل في القضايا، وكل الشكاوى من الجمالة تلقى آذاناً صاغية، وكل شيء في القافلة يجري بصرامة النظام العسكري ودقته ".
تلقى الرحالة نصائح من صديق تعرف عليه، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الجمالة " وأن نضع عفشنا وسط خيمتنا حيثما ننزل، ونترك عيناً مفتوحة ويداً قريبة من سلاحنا، وعندما تحركت القافلة كانت تمتد أميالً ، وسمعنا أن آخر قافلة توجهت قبلنا لينبع اضطرت لأخذ طريق ملتف خوفاً من اللصوص، وعبرت القافلة، وبعد 14 ساعة من السير المتواصل : تساءلت هل ستقف القافلة ؟؟ ولما توقفت بعد منتصف الليل، كان الجو قارس البرودة، وقريباً من التجمد، وكنت أعجب لتجاهل الجمالة للبرد، بلإنهم جلسوا بين جمالهم يتسامرون ويضحكون كأنهم لا يحسون لا بجوع ولا عطش ولا تعب، رغم أنهم كانوا على أقدامهم طوال 14 ساعة ".
ولما استأنفت القافلة سيرها صباحاً وسطعت الشمس تحول زمهرير البرد إلى حرارة شديدة، وكانت القافلة تتعرض بين حين وآخر لطلقات نارية، ولم تكن الأضرار كبيرة، ولم يثر هذا أي استغراب ين الركب، كما ساد الرحلة طلبات لا تتوقف للبخشيش من الحجاج، ومن يرفض الدفع للجمالة يتعرض لمضايقتهم، وفي اليوم الخامس من الرحلة كان على القافلة أن تعبر منطقة لا ماء فيها حتى ينبع " واستمر سيرنا طوال الليل حتى الصباح، ولم تظهر لنا أنوار ينبع إلا بعد منتصف الليل ".
وكان أول ما بحث عنه غرفة يأوي إليها مع رفاقه " ومن الغريب أنك لا تجد سكناً لائقاً في هذه الأماكن، ولو أن أحداً أقام فندقاً هنا أو في جدة لكان ربحه كبيراً " لم تعجبه ينبع وخاصة نظافتها، والماء قليل وما يوجد منه مالح، وقد أقيمت فيها مكينة تحلية قد تُحسن وضعه، وفي الصباح توجهوا لمكاتب السفن بحثاً عن واحدة تقلهم إلى جدة، فاستقلوا سفينة شحن يونانية، حٌوّلت لتحمل الحجاج، وركابها قرابة 1500 حاج، وكل إنش فيها كان مشغولاً " وقيل لنا إنها تحمل نصف العدد المفروض، وتعجبنا إن كان هذا حالها بنصف حمولتها، فكيف يكون عندما تحمل كامل العدد ".
وصلت السفينة إلى ميناء جدة في اليوم التالي، بعد أن أحرم الرحالة مع الحجاج لما حاذوا – الجحفة – فحملتنا زوارق من السفينة إلى الميناء " ولأننا قادمون من أرض عثمانية، فلم يتطلب ذلك لا جوازات، ولا تفتيش العفش " وكان أمامهم في الميناء صف من المطوفين " لما عرفوا أننا عرب، لم يعيرونا اهتماماً " ولأنه سيمكث في جدة أياماً، استأجر غرفاً مع مطبخ له ولرفاقه بسعر معقول " وكان المالك لطيفاً ومحترماً جداً ".
شغله نبأ وصول شيخ من زنجبار يعرفه حق المعرفة، ولما تأخر وصول الشيخ الزنجباري قرر الرحالة المغامرة، والتوجه إلى مكة تاركاً له رسالة عند صاحب المنزل الذي سينزل فيه، واستأجر 4 جمال لرحلته ورفاقه إلى مكة المكرمة.
توقف للراحة في – بحرة – ثم واصل مع قوافل الحجاج التي تملأ الطريق بين جدة ومكة المكرمة " خيم صمت عجيب على الجموع، ولم نعد نسمع طلقات نارية، ولا رفع أصوات، ولا غناء، والحجاج خاشعون، ومن الصعب على الأجنبي أن يدرك شعور المسلم الحقيقي وهو يقترب من مكة " وبعد دخول القافلة أعلام الحرم، بدأ الحجاج يلبون " لبيك اللهم لبيك : وكل منا كان يحمل كتاباً بالأدعية المختلفة في الحج " ولما دخل مكة " تنفس الصعداء وهو يتجاوز – عند مدخلها – صف المطوفين الذين يسألون الحجاج عن أسمائهم وجنسياتهم لتحويلهم على مطوفهم ….بارتياح، " من الصعب لغير المسلم قياس شعور المسلم الحقيقي وهو يدخل مكة، لكنه وقد قضى زمناً يتوجه للكعبة خمس مرات في اليوم، ها هي أمام عينيه وهو على وشك معرفة أسرارها "…
واختار منطقة هي سكن الأثرياء، وكان معي 100 استرليني، وشعرت أنه أن أوان التخلص من التقتير، وأن أنفق بارتياح، فاستأجرت منزلاً مناسباً بمبلغ 7 استرليني للشهر مع خدم المنزل ضمن الأجرة، وكان صاحب المنزل كريماً معنا، وعجبت لرخص الأجرة فقد كنت مستعداً لدفع 20 جنيهاً أجرة.
وبعد أن أعد له – محمد سعيد – صاحب المنزل الطعام، وتناولوه على الطريقة الأوروبية، على مائدة، وبالشوك والملاعق، توجه مع عبد الواحد إلى المسجد الحرام للطواف " دخلنا المسجد الحرام، وهذه الكعبة أمامنا، بثوبها الأسود الذي يلقي بظلاله على أرضية المطاف المرمرية والذي تنعكس عليه أشعة الشمس ومن هنا كان تأملنا لروعة ورهبة المكان، نجول بنظرنا نحو القبة فوق بئر زمزم، ولبناء المقام عليه، ولمقام الإمام الشافعي، حيث يتلاشى النظر في الإشعاع المحيط باسطوانات المسجد، كان الانطباع الأولي للمشهد غير العادي، كان مشهداً مهيباً، أمامنا مشهد فريد، لا مثيل له في الكون، وتأثيره خارق "..
وانصرف الرحالة يعدد بعض معالم المسجد الحرام وبنائه وبواباته الثماني عشر، ثم تحدث عن طوافه حول الكعبة " في أشد الأيام حراً، والطائفون لهذا قليلون نسبياً " وبعد أن قبّل الحجر في آخر شوط وصلى ركعتي الطواف توجه للمسعى " وكان يزاحمنا في الطواف المارة، والجمال، والخيالة والمتسكعون، مما جعل مشينا بين الصفا والمروة بطيئاً " ثم قصر شعره، وتحلل من إحرامه، الذي كان عبر عند بداية لباسه بانزعاجه من طول وقت لبسه، وعاد إلى منزله " متعباً ورجلاه متورمتان بعد أن سعى عليهما حافياً ".
ووصف مكة، وسكانها في غير الحج 70 ألفاً، لكنها في ذروة الحج قد يصل السكان إلى نصف مليون مع الحجاج، شوارعها واسعة نظيفة، وأسواقها الرئيسية مسقوفة، وكان صعباً عليه أن يجد في السوق شيئاً يرمز إلى مكة من صناعة أهلها، فالبضائع كلها مستوردة كما أن الحجاج يحضرون من بلادهم حوائج يبيعونها في مكة، ونظام الحكومة غريب، فهي تحت السيادة العثمانية، ولكنها تحت حكم شريف مكة والذي يرى نفسه مستقلاً، وعدا المسجد الحرام هناك مسجد واحد آخر بمكة، ووصف مناخ مكة ونظام شرب سكانها، ومقاهيها، وتعام الحجاج من مختلف البلدان عندما يصلون إليها، ولفت نظره سرعة تأقلم – الجاويين – مع أهل مكة، ولبسهم حال وصولهم مثل لبس أهل الحجاز، حتى قيل له إن اللبس الحجازي أصبح مألوفاً في جاوه، وقد تعرف على أحج حجاجهم ونقل عنه " ما يعلقونه من آمال على إخوانهم العرب، أكثر مما يعلقونه على الدولة العثمانية ".
وتعرف على زمزمي في الحرم – أعزب، وهذا غير مألوف هنا – دعاه إلى منزله للطعام، وذهب الرحالة إليه مراراً لتناول الشاي في منزله المطل على الحرم " كان كريماً، وقد سجلت كلمة في سجل الزيارات عنده ". وانصرف بقية أيامه لزيارة معالم مكة الشهيرة.
وأشار إلى جريدة " حجاز، والمكونة من 4 صفحات، اثنتان بالتركية واثنتان بالعربية " التي صدرت حديثاً في مكة، ومواضيع النقاش على صفحاتها، بعد روية هلال الحجة تقرر أن يكون الوقوف بعرفات ذلك العام يوم الجمعة، فتدفق المزيد من الحجاج حتى أصبحت الحركة في الشوارع صعبة، ولفت نظره كثرة حمام الحرم..
شهد وصول " المحمل " الكسوة الجديدة من مصر أول الشهر، والتي تخاط في القسطنطينية ويقال إنها تكلف 3600 استرليني، وشهد يوم تغيير لباس الكعبة، وبدأ بالاستعداد لشعائر الحج، وسط مخاوف من انتشار الوباء الذي كان فتاكاً في حج العام الذي سبق، واستأجر ثلاثة جمال وثلاثة حمير ركوب وخيمة وخادماً إضافياً، ووصف مسيرة الحج بدءاً من يوم التروية في منى " وعند الشارع أمام منزلنا سدت قوافل الجمال الطريق، ومر في الظهيرة المحمل السوري تحفه الجنود، وبعده جاء موكب الشريف حسين شريف مكة، وبعده مر موكب المحمل المصري ترافقه فرقة تركية.. اتسم سيرنا في شوارع مكة بالبطء للزحام، وحالما خرجنا منها إلى منى سرنا بسهولة على حميرنا، وبتنا في منى، وغادرنا صباحاً إلى عرفات.
" ومن العدل الاعتراف بعدم قدرتي على وصف مشهد النفرة، لكن مما يقرب الصورة تصور تحرك نصف مليون حاج نصفهم راكبون، على مسافة 9 أميال، وزئير الجموع يشبه انفلاق البحر، فيما يغطي الغبار الأفق، وعندما وصلنا إلى عرفات كان المشهد ما يزال غريباً، امتلأ صعيد عرفات بالحجاج والخيام، وأصوات التلبية تشق عنان السماء، وطغت على أصوات غيرها، ولمن يسمعها من بعيد كأنها صوت زلزال " ووصف جبل عرفات بشكله الهرمي، وعلى سفحه مجرى الماء الذي يسقي مكة " كان ترتيب خيامنا جيداً، وكل منا في أحسن حالاته النفسية، وتصورت هذا المكان الذي يعج اليوم بالحركة وكان بالأمس خالياً، وسيكون كذلك غداً، حتى إن أحداً لن يجرؤ على المجيء إليه في غير هذا اليوم، لأن الأمن منعدم ".
سمع صوت 63 طلقة مدفعية إيذاناً بموعد الصلاة " أسفل الجبل كان هناك حوض يستحم فيه الحجاج، وآلاف من فقراء الحجاج يبحثون عن ظل يستظلونه بين حجارة الجبل، ولم استغرب الأوبئة في مثل هذا الجو، بل المستغرب أن الكوليرا عندما تنتشر هنا أن تترك أحداً من هذه الجموح حياً ".
نفر الرحالة مع الحجاج إلى مزدلفة ومنها إلى منى، وكان الزحام حول العقبة كبيراً مما تطلب منا ساعة للرمي ". تحدث عن ذبح الأضاحي في المخيم، وما يثيره ذلك من خطر الكوليرا، كما حدث في حج العام الماضي، ولهذا خصصت الحكومة مكاناً لذبح الأضاحي خارج منى، ويعاقب من يخالف ذلك " تكلف الأضحية دولاراً " وتوجه على حماره مع رفاقه إلى مكة يوم النحر لطواف الإفاضة، وبعد التحلل " وجدنا صعوبة في الحصول على ماء للاستحمام الذي كنا في أمس الحاجة إليه، وكان ظهري يؤلمني بسب الشمس وكاد رأسي ينفجر من الألم، وعدنا على حميرنا إلى منى، ووصلنا عندما كانت طلقات المدفع تعلن حلول العشاء ".
في ليلتهم الأولى بمنى، وبسبب نومهم العميق، تعرضوا لسطو، سرقت حقيبة الرحالة وبداخلها 5 استرليني نسخة مذهبة من القرآن الكريم اشتراها قبل الصعود للحج بـ 30 شلناً، و19 سبحة".
كان يوم العيد مشهداً احتفالياً في منى، حيث كان هناك استعراض كبير شارك فيه شريف مكة وكبار شخصيات حج ذلك العام، وكان محور الحديث العلم الأحمر المرفوع فوق الكرنتينة بمنى والذي يعني سلامة الحج من الأوبئة، ولو تغير لونه إلى الأصفر فذلك يعني ظهور وباء الكوليرا ".
وبعد انتهاء أيام التشريق عاد الرحالة ورفاقه على حميرهم إلى مكة المكرمة، وقد انتهى الحج بالنسبة لهم، ولم يكن باستطاعته مغادرة مكة فوراً، لأن الطريق غير آمن، بعد أن استدعيت حاميات الطريق فترة الحج إلى مكة والمشاعر، ومما زاد الطين بلة أن الشريف كافأ الموظفين العاملين في الحج على خلوه من الوباء براحة من العمل لعدة أيام " وتطلب هذا بقاءنا في مكة لستة أيام، وبعد أن دفعت الأجور كلها تبقى لي 20 جنيهاً فقط، لانتقالي ورفاقي إلى جدة ومنها كل حسب وجهته " وحالما أعلن السماح للسفر إلى جدة، غادرنا صباح اليوم التالي على حماري ".
بعد أن تجاوز بحرة، أوقفه جنود أتراك عند نقطة تفتيش هو والمسافرون معه من تجار جدة " نتيجة لأوامر بعد السفر ليلاً، خوفاً على حياة المسافرين من اللصوص" ولما وصل إلى جدة اكتشف أن ما تبقى لديه من نقود لا يكفي لإيصاله ورفاقه في رحلة العودة.. " واستقر الرأي أن يأخذ كل من الرفاق الثلاثة اتجاهه، عبد الواحد إلى فارس، مسعودي إلى ممبسا، والرحالة إلى القاهرة مسروراً لنجاح مهمته "…
مجلة الحج والعمرة – السنة الرابعة الستون
العدد الخامس – جمادى الأولى 1430هـ
مشاهدات آرثر وافل على طريق الحج
--------------------------------------------------------------------------------
كتبهاسليمان ناصر الدرسوني ، في 12 أبريل 2010 الساعة: 23:03 م
رحلة الى جزيرة العرب
تلقى " آثر وافل " تعليمه في – ونشستر – وساندهرست، وعمل في فرقة – ويلز – العسكرية وعمل عام 1904م لبلاده في سويسرا وما جاورها، واستقر بعد تركه العمل في شرق أفريقيا، متنقلاً بين بتسوانا لاند إلى منطقة الزمبيزي، لكنه سرعان ما لبى إغراء البلاد العربية للسفر والمغامرة، وقام متنكراً عام 1908م برحلة إلى الحج فزار مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعاد من هذه المغامرة سالماً، ثم عاد ثانيةً للبلاد العربية للقيام ببعض الاستكشافات منطلقاً من – الحديدة – فوصل إلى صنعاء، حيث انتهت الشكوك حوله إلى حصاره فيها، وأعيد إلى الحديدة دون أن يتحقق له ما أراد، وكتب عن سفرتيه كتاب رحلة نشره عام 1912م وعاد إلى شرق أفريقيا، حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى وهو هناك، والتحق بالخدمة العسكرية بمهمة مقاومة التمدد الألماني، وقُتل في معركة بشرق أفريقيا عام 1916م.
وبعد مقدمة طويلة استعرض فيها تاريخ الجزيرة العربية، وظهور الإسلام وانتشاره، ثم شرح سبب أدائه للحج " عام 1908 – 1909م، بداية بسبب حب الاستطلاع، وبسبب أخص التأقلم مع حياة العرب، مع تطلعي لرحلات مستقبلية، بأهداف استكشاف أعماق الجزيرة العربية، ولذلك فإن التخفي في هيئة – حاج – مفيد للمسافرين في البلاد الإسلامية ".
واتخذ – مسعودي – خادماً له، وهو مواطن من ممبسا – المنطقة السواحيلية – في شرق أفريقيا، كما اتفق لاحقاً مع – عبد الواحد – وهو مواطن من حلب لمساعدته في رحلته " واجتمع ثلاثتنا في مرسيليا في 23 سبتمر 1908م، وكان موسم الحج يقع في يناير من العام التالي، ولما كان هدفي المقام في المدينة – المنورة – لبعض الوقت، فلم يكن تحركنا مبكراً، كذلك كنت أرغب قضاء بعض الوقت في دمشق لأقنع نفسي بأن انتحالي لشخصية مشرقية فعال، قبل دخولي للبلاد المقدسة ".
وكانت العقبة الأولى الحصول على جواز سفر، وقد حصلت عليه باعتباري مواطناً من زنجبار متجه إلى مكة، تحت اسم " علي بن محمد ".وتوجه ثلاثتهم إلى جنوة في إيطاليا مع رفاقه، واستقلوا منها سفينة استغرق وصولهم إلى الإسكندرية تسعة أيام، وفي قسم الجمارك " اعتقلنا باعتبارنا مشبوهين لما نحمل معنا من أسلحة – مسدسات وذهب، وساعات وأدوية، وهدايا أخرى، وأحيل أمرنا للباشا – حاكم الاسكندرية، وكان الوقت رمضان، ولما حضر متأخراً تعرضنا لتفتيش ثان، وتحمل – عبد الواحد مسؤولية كل مخالفاتنا، واحتجز متاعنا في الجمارك لنتسلمه عند إبحارنا إلى بيروت " وكان أول ما قام بعد استراحة في الفندق الذهاب لحمام تركي، وحلق شعر رأسه ليبعد عنه شبهة – الأوروبي – " وتغلبت على عائق اللغة بادعاء أني من زنجبار التي يتكلم أهلها السواحيلية، ولا يحسنون العربية، وعندما أقابل من يحسن السواحيلية أدي له أني ولدت في مسقط، وأن لغتي هي العربية ".
وغادر الإسكندرية بعد أن أخذ صناديقه المحتجزة في الجمارك، واستقل سفينة مع ركابها من كل الجنسيات ومن كل الألوان: اليونان، الطليان، المصريون، العرب السوريون والأتراك، وقضوا يوماً في بورسعيد، وفي اليوم التالي وصلنا إلى – يافا – ميناء – القدس – وهنا دخلنا في منطقة السيادة العثمانية، وخضعنا للكرنتينة، كنا نستمتع بمنظر تبخير بقية الركاب ضمن احتياطات الكرنتينة " ومنها وصلت الباخرة إلى – حيفا – ومنها إلى ميناء بيروت، واستأجر غرفة معقولة النظافة في فندق بفرنكين لليلة الواحدة " كنت خائفاً لما علمت أن السلطات التركية تدقق في دخول الأجانب إلى أراضيها، وتدقق وتطلب وثائقهم الأصلية، وكانت مفاجأة سهولة تفييز جواز سفري، والتفتيش السطحي لما نحمله من صناديق، وعندما غادرنا السفينة وجدنا أنفسنا أحراراً نذهب حيث نشاء داخل الأراضي العثمانية، وجدت بيروت مدينة جميلة كنت أتمنى قضاء أيام بها، لكننا قررنا مواصلة السفر إلى دمشق التي وصلناها في 20 رمضان، ولما لم يعد مسافراً فتحتم عليه الصيام ..
وصف دمشق بأنها " أكثر المدن ازدحاماً وجمالاً في الشرق كله " ولأنه لن يتحرك إلى – المدينة المنورة إلا بعد شهر، فقد كان عنده من الوقت ما يستمتع به، ويقوي عربيت، ويعمق معرفته بشعائر الإسلام، والتعود على اللباس العربي، وما يجب أن يقال في كل مناسبة، " وأهم شيء للمسافر الأوروبي المتخفي، أن يكون ممثلاً قديراً، وأن يفتح عينيه جيداً، ويغلق فمه ".
وينصح – وافل – من يرغب من الأوروبيين في السفر في البلاد العربية " أن يسافر فقيراً معدماً، ويحمل معه 5 جنيهات، ويلبس أسمالاً، ولا شيء غير هذا " …
ومع اقتراب موعد انطلاق قافلة الحج الشامي، تجهز الرحالة بشراء الإحرام، وخيمة، وحصير، وعدد من الخِرج (جمع خُرج)، سكاكين، شوك، صحون، أدوات الطبخ، وحاويات الماء، وكمية معتبرة من الشاي "تركت مالي عند تاجر في دمشق، فأعطاني مقابله شيكين، واحد لوكيله في المدينة والياني لوكيله في مكة، حيث لا توجد بنوك فيهما "..
تكلف تذكرة السفر بالقطار من دمشق إلى المدينة أكثر قليلاً من 3 جنيهات استرلينية للفرد، وعندما استقل القطار "كانت عرباته في غاية الفوضى والازدحام بالعفش والركاب، ولا متسع فيها لشيء، علاوة على أن أماكننا المحجوزة أُخذت ".
أحضر الرحالة معه تموينه من المأكولات " بيض مسلوق، خبز، كعك " ولكن مع الجو المغبر في القطار ما أمكنني تناول شيء " لم يكن المكان في القطار مريحاً للنوم، فداهمته الملاريا في ليلته الثانية في القطار فأفسح له مرافقوه مكاناً ليتمدد، وقدموا له أحسن ما عندهم من طعام وفاكهة، وكان رد التحية من جانبه تقديم وابور – بريموس – يمكنه عمل الشاي في دقائق وقتما يشاؤون.. وبعد ثلاثة أيام على خط حديد الحجاز، وصل القطار إلى المدينة المنورة، حيث قدّر الرحالة سكانها بـ 30 ألفاً، تنحصر أعمالهم ومصدر رزقهم فيما يتعلق بالحجاج، وبالتالي فإنهم يعملون بجد لثلاثة أشهر، ثم لا يعملون شيئاً بقية شهور السنة، الأغنياء من أهل المدينة يملكون البيوت ويؤجرونها في الحج، والشباب يعملون كمرشدين، وأصحاب الدكاكين في بيعهم وشرائهم، وكذلك الحمالون والسقاؤون كلهم يحقق دخلاً من الموسم " المرشدون أو المطوفون أتعبوني في دخولي المدينة ومكة، ومهماتهم العناية بالحاج ومرافقته في الزيارة والطواف، وليس لأعمالهم تسعيرة محددة، ولهذا فبينهم تنافس على الفوز بالأثرياء من الحجاج خاصة مَن كان منهم يحمل عفشاً كثيراً ، ومعه خدم، ولهذا عملت الحكومة على تخصيص عدد من حجاج كل بلد لكل منهم، وجعلت لهم نظاماً للفصل في خلافاتهم وشكاوى الحجاج من خدماتهم، وحقق هذا النظام نجاحاً، وإذ كان على مرشد ومطوف تعلم لغة حجاجه وعاداتهم والعمل على تقديم خدمات مرضية لهم "…
وقد سبب هذا النظام مخاطر للرحالة، إذ كان عليه باعتباره من حجاج زنجبار الاختلاط عن طريق مطوفهم بحجاج بلاده، مما يعرضه لانكشاف أمره، وهنا انتحل صفة درويش العراق.
ووصف المسجد النبوي، وحركة العُبّاد داخله، والقبر الشريف، بناؤه والستائر على جدرانه، وقبري أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما، والروضة والمحراب، حيث كان يؤدي الصلوات المكتوبة، ويركع في الأماكن التي يطلب إليه النفل فيها " وأخذني مرشد يعرفني بمعالم المسجد النبوي مقابل دولار " وكان يتعرض داخل المسجد لأسئلة عن أصله، فمن قائل أنه من فارس، أو البصرة لكنه كان يرد بأنه درويش سائح في أرض الله، وقد نصحه صاحب المنزل الذي استأجره أن يلبس لباس أهل المدينة لتحاشي مثل هذه الأسئلة، ففعل ، كان يصلي في المسجد، وبعدها يتحول مستكشفاً .. بعد ثلاثة أسابيع ازدحمت المدينة بالحجاج، وأصبح من الصعب الحركة في شوارعها " كنت أقضي معظم الوقت في المسجد، حيث أجد الراحة سانداً ظهري على أحد أسطواناته ، متظاهراً بالقراءة، ومراقباً الناس ".
لفت نظر الرحالة وجود بضائع أوروبية تباع في المدينة، واستغرب وجود إعلان عن شوكلاته وبسكويت من صناعة إنجليزية، كما اشترى من سوق المدينة أحجاراً كريمة، وجيها، وجدها فيما بعد في القاهرة بنصف الثمن، ولم يجد في المدينة مَن يختص بها من هدايا تشترى، ولا كتباً تطبع فيها، لكن مرافقه – عبد الواحد – اشترى مخطوطات بثمن عال على أمل أن يبيعها في أوروبا، وأشار إلى المكتبة الملاصقة للحرم النبوي، وحمامين تركيين بالمدينة.
بعد ثلاثة أسابيع، بدأ الرحالة التفكير في التوجه إلى مكة المكرمة، وقلّب الخيارات المتاحة، فاختار مرافقة قافلة متجهة إلى ينبع فجهز ثلاثة جمال واحد منها بشقدف والباقيان للعفش، وصرف الشيك الذي كان معه من تاجر بالمدينة ودفع التزاماته من إيجار وغيره، وكانت هذه المرة الأولى التي يركب في الشقدف، تحركت القافلة في الصباح بعد فترة انتظار تحميل الجمال – وعدد جمالها 5000 – بالشقادف والعفش " كانت هناك حراسة جيدة، إضافة إلى أن الحجاج أنفسهم يحملون سلاحاً، وكلما توقفت القافلة نصب سوق وسطها للبيع والشراء، ويجلس قاض لمعاقبة المذنبين والفصل في القضايا، وكل الشكاوى من الجمالة تلقى آذاناً صاغية، وكل شيء في القافلة يجري بصرامة النظام العسكري ودقته ".
تلقى الرحالة نصائح من صديق تعرف عليه، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الجمالة " وأن نضع عفشنا وسط خيمتنا حيثما ننزل، ونترك عيناً مفتوحة ويداً قريبة من سلاحنا، وعندما تحركت القافلة كانت تمتد أميالً ، وسمعنا أن آخر قافلة توجهت قبلنا لينبع اضطرت لأخذ طريق ملتف خوفاً من اللصوص، وعبرت القافلة، وبعد 14 ساعة من السير المتواصل : تساءلت هل ستقف القافلة ؟؟ ولما توقفت بعد منتصف الليل، كان الجو قارس البرودة، وقريباً من التجمد، وكنت أعجب لتجاهل الجمالة للبرد، بلإنهم جلسوا بين جمالهم يتسامرون ويضحكون كأنهم لا يحسون لا بجوع ولا عطش ولا تعب، رغم أنهم كانوا على أقدامهم طوال 14 ساعة ".
ولما استأنفت القافلة سيرها صباحاً وسطعت الشمس تحول زمهرير البرد إلى حرارة شديدة، وكانت القافلة تتعرض بين حين وآخر لطلقات نارية، ولم تكن الأضرار كبيرة، ولم يثر هذا أي استغراب ين الركب، كما ساد الرحلة طلبات لا تتوقف للبخشيش من الحجاج، ومن يرفض الدفع للجمالة يتعرض لمضايقتهم، وفي اليوم الخامس من الرحلة كان على القافلة أن تعبر منطقة لا ماء فيها حتى ينبع " واستمر سيرنا طوال الليل حتى الصباح، ولم تظهر لنا أنوار ينبع إلا بعد منتصف الليل ".
وكان أول ما بحث عنه غرفة يأوي إليها مع رفاقه " ومن الغريب أنك لا تجد سكناً لائقاً في هذه الأماكن، ولو أن أحداً أقام فندقاً هنا أو في جدة لكان ربحه كبيراً " لم تعجبه ينبع وخاصة نظافتها، والماء قليل وما يوجد منه مالح، وقد أقيمت فيها مكينة تحلية قد تُحسن وضعه، وفي الصباح توجهوا لمكاتب السفن بحثاً عن واحدة تقلهم إلى جدة، فاستقلوا سفينة شحن يونانية، حٌوّلت لتحمل الحجاج، وركابها قرابة 1500 حاج، وكل إنش فيها كان مشغولاً " وقيل لنا إنها تحمل نصف العدد المفروض، وتعجبنا إن كان هذا حالها بنصف حمولتها، فكيف يكون عندما تحمل كامل العدد ".
وصلت السفينة إلى ميناء جدة في اليوم التالي، بعد أن أحرم الرحالة مع الحجاج لما حاذوا – الجحفة – فحملتنا زوارق من السفينة إلى الميناء " ولأننا قادمون من أرض عثمانية، فلم يتطلب ذلك لا جوازات، ولا تفتيش العفش " وكان أمامهم في الميناء صف من المطوفين " لما عرفوا أننا عرب، لم يعيرونا اهتماماً " ولأنه سيمكث في جدة أياماً، استأجر غرفاً مع مطبخ له ولرفاقه بسعر معقول " وكان المالك لطيفاً ومحترماً جداً ".
شغله نبأ وصول شيخ من زنجبار يعرفه حق المعرفة، ولما تأخر وصول الشيخ الزنجباري قرر الرحالة المغامرة، والتوجه إلى مكة تاركاً له رسالة عند صاحب المنزل الذي سينزل فيه، واستأجر 4 جمال لرحلته ورفاقه إلى مكة المكرمة.
توقف للراحة في – بحرة – ثم واصل مع قوافل الحجاج التي تملأ الطريق بين جدة ومكة المكرمة " خيم صمت عجيب على الجموع، ولم نعد نسمع طلقات نارية، ولا رفع أصوات، ولا غناء، والحجاج خاشعون، ومن الصعب على الأجنبي أن يدرك شعور المسلم الحقيقي وهو يقترب من مكة " وبعد دخول القافلة أعلام الحرم، بدأ الحجاج يلبون " لبيك اللهم لبيك : وكل منا كان يحمل كتاباً بالأدعية المختلفة في الحج " ولما دخل مكة " تنفس الصعداء وهو يتجاوز – عند مدخلها – صف المطوفين الذين يسألون الحجاج عن أسمائهم وجنسياتهم لتحويلهم على مطوفهم ….بارتياح، " من الصعب لغير المسلم قياس شعور المسلم الحقيقي وهو يدخل مكة، لكنه وقد قضى زمناً يتوجه للكعبة خمس مرات في اليوم، ها هي أمام عينيه وهو على وشك معرفة أسرارها "…
واختار منطقة هي سكن الأثرياء، وكان معي 100 استرليني، وشعرت أنه أن أوان التخلص من التقتير، وأن أنفق بارتياح، فاستأجرت منزلاً مناسباً بمبلغ 7 استرليني للشهر مع خدم المنزل ضمن الأجرة، وكان صاحب المنزل كريماً معنا، وعجبت لرخص الأجرة فقد كنت مستعداً لدفع 20 جنيهاً أجرة.
وبعد أن أعد له – محمد سعيد – صاحب المنزل الطعام، وتناولوه على الطريقة الأوروبية، على مائدة، وبالشوك والملاعق، توجه مع عبد الواحد إلى المسجد الحرام للطواف " دخلنا المسجد الحرام، وهذه الكعبة أمامنا، بثوبها الأسود الذي يلقي بظلاله على أرضية المطاف المرمرية والذي تنعكس عليه أشعة الشمس ومن هنا كان تأملنا لروعة ورهبة المكان، نجول بنظرنا نحو القبة فوق بئر زمزم، ولبناء المقام عليه، ولمقام الإمام الشافعي، حيث يتلاشى النظر في الإشعاع المحيط باسطوانات المسجد، كان الانطباع الأولي للمشهد غير العادي، كان مشهداً مهيباً، أمامنا مشهد فريد، لا مثيل له في الكون، وتأثيره خارق "..
وانصرف الرحالة يعدد بعض معالم المسجد الحرام وبنائه وبواباته الثماني عشر، ثم تحدث عن طوافه حول الكعبة " في أشد الأيام حراً، والطائفون لهذا قليلون نسبياً " وبعد أن قبّل الحجر في آخر شوط وصلى ركعتي الطواف توجه للمسعى " وكان يزاحمنا في الطواف المارة، والجمال، والخيالة والمتسكعون، مما جعل مشينا بين الصفا والمروة بطيئاً " ثم قصر شعره، وتحلل من إحرامه، الذي كان عبر عند بداية لباسه بانزعاجه من طول وقت لبسه، وعاد إلى منزله " متعباً ورجلاه متورمتان بعد أن سعى عليهما حافياً ".
ووصف مكة، وسكانها في غير الحج 70 ألفاً، لكنها في ذروة الحج قد يصل السكان إلى نصف مليون مع الحجاج، شوارعها واسعة نظيفة، وأسواقها الرئيسية مسقوفة، وكان صعباً عليه أن يجد في السوق شيئاً يرمز إلى مكة من صناعة أهلها، فالبضائع كلها مستوردة كما أن الحجاج يحضرون من بلادهم حوائج يبيعونها في مكة، ونظام الحكومة غريب، فهي تحت السيادة العثمانية، ولكنها تحت حكم شريف مكة والذي يرى نفسه مستقلاً، وعدا المسجد الحرام هناك مسجد واحد آخر بمكة، ووصف مناخ مكة ونظام شرب سكانها، ومقاهيها، وتعام الحجاج من مختلف البلدان عندما يصلون إليها، ولفت نظره سرعة تأقلم – الجاويين – مع أهل مكة، ولبسهم حال وصولهم مثل لبس أهل الحجاز، حتى قيل له إن اللبس الحجازي أصبح مألوفاً في جاوه، وقد تعرف على أحج حجاجهم ونقل عنه " ما يعلقونه من آمال على إخوانهم العرب، أكثر مما يعلقونه على الدولة العثمانية ".
وتعرف على زمزمي في الحرم – أعزب، وهذا غير مألوف هنا – دعاه إلى منزله للطعام، وذهب الرحالة إليه مراراً لتناول الشاي في منزله المطل على الحرم " كان كريماً، وقد سجلت كلمة في سجل الزيارات عنده ". وانصرف بقية أيامه لزيارة معالم مكة الشهيرة.
وأشار إلى جريدة " حجاز، والمكونة من 4 صفحات، اثنتان بالتركية واثنتان بالعربية " التي صدرت حديثاً في مكة، ومواضيع النقاش على صفحاتها، بعد روية هلال الحجة تقرر أن يكون الوقوف بعرفات ذلك العام يوم الجمعة، فتدفق المزيد من الحجاج حتى أصبحت الحركة في الشوارع صعبة، ولفت نظره كثرة حمام الحرم..
شهد وصول " المحمل " الكسوة الجديدة من مصر أول الشهر، والتي تخاط في القسطنطينية ويقال إنها تكلف 3600 استرليني، وشهد يوم تغيير لباس الكعبة، وبدأ بالاستعداد لشعائر الحج، وسط مخاوف من انتشار الوباء الذي كان فتاكاً في حج العام الذي سبق، واستأجر ثلاثة جمال وثلاثة حمير ركوب وخيمة وخادماً إضافياً، ووصف مسيرة الحج بدءاً من يوم التروية في منى " وعند الشارع أمام منزلنا سدت قوافل الجمال الطريق، ومر في الظهيرة المحمل السوري تحفه الجنود، وبعده جاء موكب الشريف حسين شريف مكة، وبعده مر موكب المحمل المصري ترافقه فرقة تركية.. اتسم سيرنا في شوارع مكة بالبطء للزحام، وحالما خرجنا منها إلى منى سرنا بسهولة على حميرنا، وبتنا في منى، وغادرنا صباحاً إلى عرفات.
" ومن العدل الاعتراف بعدم قدرتي على وصف مشهد النفرة، لكن مما يقرب الصورة تصور تحرك نصف مليون حاج نصفهم راكبون، على مسافة 9 أميال، وزئير الجموع يشبه انفلاق البحر، فيما يغطي الغبار الأفق، وعندما وصلنا إلى عرفات كان المشهد ما يزال غريباً، امتلأ صعيد عرفات بالحجاج والخيام، وأصوات التلبية تشق عنان السماء، وطغت على أصوات غيرها، ولمن يسمعها من بعيد كأنها صوت زلزال " ووصف جبل عرفات بشكله الهرمي، وعلى سفحه مجرى الماء الذي يسقي مكة " كان ترتيب خيامنا جيداً، وكل منا في أحسن حالاته النفسية، وتصورت هذا المكان الذي يعج اليوم بالحركة وكان بالأمس خالياً، وسيكون كذلك غداً، حتى إن أحداً لن يجرؤ على المجيء إليه في غير هذا اليوم، لأن الأمن منعدم ".
سمع صوت 63 طلقة مدفعية إيذاناً بموعد الصلاة " أسفل الجبل كان هناك حوض يستحم فيه الحجاج، وآلاف من فقراء الحجاج يبحثون عن ظل يستظلونه بين حجارة الجبل، ولم استغرب الأوبئة في مثل هذا الجو، بل المستغرب أن الكوليرا عندما تنتشر هنا أن تترك أحداً من هذه الجموح حياً ".
نفر الرحالة مع الحجاج إلى مزدلفة ومنها إلى منى، وكان الزحام حول العقبة كبيراً مما تطلب منا ساعة للرمي ". تحدث عن ذبح الأضاحي في المخيم، وما يثيره ذلك من خطر الكوليرا، كما حدث في حج العام الماضي، ولهذا خصصت الحكومة مكاناً لذبح الأضاحي خارج منى، ويعاقب من يخالف ذلك " تكلف الأضحية دولاراً " وتوجه على حماره مع رفاقه إلى مكة يوم النحر لطواف الإفاضة، وبعد التحلل " وجدنا صعوبة في الحصول على ماء للاستحمام الذي كنا في أمس الحاجة إليه، وكان ظهري يؤلمني بسب الشمس وكاد رأسي ينفجر من الألم، وعدنا على حميرنا إلى منى، ووصلنا عندما كانت طلقات المدفع تعلن حلول العشاء ".
في ليلتهم الأولى بمنى، وبسبب نومهم العميق، تعرضوا لسطو، سرقت حقيبة الرحالة وبداخلها 5 استرليني نسخة مذهبة من القرآن الكريم اشتراها قبل الصعود للحج بـ 30 شلناً، و19 سبحة".
كان يوم العيد مشهداً احتفالياً في منى، حيث كان هناك استعراض كبير شارك فيه شريف مكة وكبار شخصيات حج ذلك العام، وكان محور الحديث العلم الأحمر المرفوع فوق الكرنتينة بمنى والذي يعني سلامة الحج من الأوبئة، ولو تغير لونه إلى الأصفر فذلك يعني ظهور وباء الكوليرا ".
وبعد انتهاء أيام التشريق عاد الرحالة ورفاقه على حميرهم إلى مكة المكرمة، وقد انتهى الحج بالنسبة لهم، ولم يكن باستطاعته مغادرة مكة فوراً، لأن الطريق غير آمن، بعد أن استدعيت حاميات الطريق فترة الحج إلى مكة والمشاعر، ومما زاد الطين بلة أن الشريف كافأ الموظفين العاملين في الحج على خلوه من الوباء براحة من العمل لعدة أيام " وتطلب هذا بقاءنا في مكة لستة أيام، وبعد أن دفعت الأجور كلها تبقى لي 20 جنيهاً فقط، لانتقالي ورفاقي إلى جدة ومنها كل حسب وجهته " وحالما أعلن السماح للسفر إلى جدة، غادرنا صباح اليوم التالي على حماري ".
بعد أن تجاوز بحرة، أوقفه جنود أتراك عند نقطة تفتيش هو والمسافرون معه من تجار جدة " نتيجة لأوامر بعد السفر ليلاً، خوفاً على حياة المسافرين من اللصوص" ولما وصل إلى جدة اكتشف أن ما تبقى لديه من نقود لا يكفي لإيصاله ورفاقه في رحلة العودة.. " واستقر الرأي أن يأخذ كل من الرفاق الثلاثة اتجاهه، عبد الواحد إلى فارس، مسعودي إلى ممبسا، والرحالة إلى القاهرة مسروراً لنجاح مهمته "…
مجلة الحج والعمرة – السنة الرابعة الستون
العدد الخامس – جمادى الأولى 1430هـ
مشاهدات آرثر وافل على طريق الحج