الزعفران.. أصله وفصله
استخدمته كليوبترا في حمامها.. والرومان في علاجاتهم
اسهم المسلمون في نشر الزعفران في ايطاليا وفرنسا واسبانيا (رويترز)
لندن: كمال قدورة
الزعفران من النباتات الجميلة والرقيقة التي تكن لها الشعوب مكانة خاصة في قاموسها المطبخي والطبي والجمالي منذ قديم الزمان. والنبتة نفسها من أجمل النباتات البصلية التي لا تنمو بأكثر من 40 سنتيمترا. وعادة ما تكون أوراقها دقيقة ونحيفة ومطرزة بالأبيض وأزهارها ليلكية وزهرية أحيانا ذات المياسم الخمرية البنية الحمراء الداكنة والمتميزة مع بعض الاصفرار أحيانا. وهناك منه أنواع كثيرة لا تستغل لغايات الأكل، تستخدم لصناعة باقات الورد التي يتبادلها العشاق في بداية فصل الربيع من كل عام. وعلى صغر النبتة وروعتها جماليا، أصبحت مع الأيام من أغلى النباتات في العالم. علميا يقال إن الزعفران (Saffron) من النباتات البصلية من الفصيلة السوسنية، ويطلق على النوع المستخدم نباتيا وعلميا اسم «Crocus sativus»، ويعود أصل الاسم الإنجليزي إلى اللاتينية «سفرانوم» (safranum) التي أخذته عن الفرنسية القديمة في القرن الثاني عشر وخصوصا كلمة «سفران» (safran). والاسم الإيطالي «زفارانو» (zafferano) أيضا تدرج من الفرنسية القديمة، كما هو حال الاسم الإسباني «أزافران» (azafran). والأصل الفرنسي يعود بالطبع إلى اللغة الفارسية «زفاران» (zaferan) الذي جاء من العربية «زعفران» (zafaran) على الأرجح، ومن كلمة «أصفر» (asfar) بالتحديد. تاريخيا تشير المعلومات المتوفرة بأن زراعة الزعفران حول العالم بدأت قبل 3 آلاف سنة، وكان يستخدم للزراعة النوع المعروف بـ«كروكوس كارترايتيانوس» (Crocus cartwrightianus) خصوصا في العصر البرونزي، وقد عمل الفلاحون عبر العصور على تأصيل الأنواع الطويلة المياسم منه. وتعود أولى المدونات المكتوبة التي تذكر الزعفران إلى القرن السابع قبل الميلاد، كما تؤكد الموسوعة الحرة. وتعود هذه المدونات إلى العراق القديم وأيام الآشوريين والسومريين، وبالتحديد الملك آشور بانبال. إلا أن الحفريات الأخيرة أشارت أيضا إلى أن الناس استخدموا الزعفران قبل 4 آلاف سنة لمعالجة 90 مرضا، كما يبدو. وعثر علماء الآثار أيضا على آثار لصبغيات الزعفران في العراق يعود تاريخها إلى 50 ألف سنة. كما بدأت عملية الإتجار به أيضا إلى ما قبل الحضارة المانوية. كما اهتم به الفرس وأهل إيران منذ القرن العاشر قبل الميلاد، زراعة وتأصيلا واستخداما، وخصوصا في مناطق أصفهان وديربينا وخراسان. وكان الإيرانيون يستخدمون مياسم الزعفران في حياكة بعض الألبسة الخاصة بالعائلة المالكة والأغنياء. وفضلا عن استخدام الإيرانيين له في الطبابة والتلوين والعطور والتطهير والغسيل، فقد دأبوا على نثره على الأسرّة وغليه في الشاي لإبعاد الاكتئاب وحالات الحزن. وقد أخذ الإسكندر المقدوني بعد مروره على إيران قديما معظم العادات والتقاليد الإيرانية في استخدام الزعفران، فوضعه في حمامه واستخدمه مع الأرز ولتنشيط وضعه الجنسي.. إلخ. ومن هناك ورثت اليونان الزعفران من إيران كنبتة وكتقاليد. كما جاء الزعفران الكشميري الشهير من إيران كما يبدو من الوثائق قبل ألف أو 2500 سنة. وبالذات خلال الوجود الفارسي في كشمير. وبعد ذلك بدأ الفينيقيون بترويج الزعفران الكشميري والإتجار به كمادة للتلوين وطرد الاكتئاب. ومن ذلك الحين انتشر الزعفران في الكثير من مناطق العالم واستخدم للكثير من الغايات، كما سبق وذكرنا. ومن هذه المناطق بالطبع الهند والصين. فقد أحب الرهبان البوذيون الزعفران وأصبح جزءا من تقاليدهم. ورغم أن الوثائق الصينية القديمة الخاصة بالأعشاب مثل «Shennong Bencaojing» التي ذكرت الزعفران، فإن المؤرخين يعتقدون أن الزعفران جاء إلى الصين قبل ذلك بكثير، وربما مع المغول الذين جلبوه من إيران. وفي اليونان القديم، عرفه الإغريق أيام الحضارة المانوية التي عزت الزعفران وأعطته مكانة عالية في مراتب النبات في القرن السادس عشر قبل الميلاد. وجاء الزعفران في الخرافات الإغريقية، وتقول بعضها إن الناس كانوا يبحرون إلى صقلية خصيصا لجلب الزعفران. ويقال إن الزعفران استخدم في غزة ومصر وجزيرة رودس قديما لغايات التعطير والتجميل والتطبيب. ومقابل الاستخدام الفرعوني المكثف له، واستخدام كليوبترا له في حمامها، ولمعالجة الكثير من الأمراض، استخدمه الفينيقيون في لبنان وفلسطين والمناطق المجاورة، وفي مدينتي صيدا وصور في لبنان بالتحديد للصباغة. ولم ينس الرومان الزعفران أيضا حيث استخدموه لتضميد الجراح وعلاج السعال، وأخذ الرومان معهم الزعفران إلى ما كان يعرف بغول (فرنسا وبعض بلجيكا وألمانيا وسويسرا)، حيث استغلوه أفضل استغلال حتى سقوط روما. وتشير بعض المعلومات إلى أن الفرنسيين أيضا أخذوا الزعفران عن طريق الأندلس، وأن المسلمين أسهموا في نشر الزعفران في كل من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. وكان الزعفران من المواد المهمة التي تاجرت بها إمبراطوريات المتوسط منذ بداية تاريخها، وسبب هذا العشب الطيب حربا طاحنة لأكثر من 3 أشهر ونصف الشهر بين جمهوريات المدن الإيطالية السابقة كجنوا وبيزا والبندقية. وبعد تعذر الحصول عليه عبر اليونان وإيطاليا بدأت زراعته تنتشر في سويسرا وألمانيا، حيث كانت عقوبة الغش فيه السجن والإعدام. من هناك انتشر إلى إنجلترا واهتمت به منطقتا سوفيك ونوفيك الشرقيتين. واختصت إحدى البلدات الإنجليزية بالزعفران في القرنين السادس والسابع عشر بالعناية بالزعفران وإنتاج الأدوية والأصباغ منه لدرجة أن حملت اسمه وصار يطلق عليها «سفرون وولدن» (Saffron Walden). ويبدو أن الكنيسة الأوروبية نقلت الزعفران من أوروبا إلى أميركا، حيث انتشر أول ما انتشر في بنسلفانيا، ومن ثم إلى الكاريبي والمستعمرات الإسبانية. ويقال إن لشدة الطلب على الزعفران كان يعتبر تجاريا بقيمة الذهب في ولاية فيلادلفيا. وذكر ابن سينا الزعفران في كتاب «القانون في الطب» قائلا: «زهره يشبه زهرة الياسمين، منه أصفر ومنه ما يميل إلى البياض، جيده الطري الحسن اللون الذكي الرائحة، على شغره قليل بياض غير كثير، ممتلئ غير صحيح، غير سريع للصبغ غير ملزج ولا مفتت، قابض محلل. قال غالينوس حرارته أقوى من قبضه، ودهنه مسخن يحسن اللون، شربه محلل للأورام ويطلى به الحمرة، مصدع يضر الرأس وهو منوم للحواس إذا سقي في الشراب، ينفع من الورم الحار في الأذن، يجلو البصر وينفع من الغشاوة، يكتحل به للزرقة المكتسبة في الأمراض، مقوٍ للقلب». أما ابن البيطار فقد نصح باستخدام الزعفران مع البيض لعلاج البواسير ورطوبات العين وتقوية وتحسين لون البشرة. ويبدو أن الزعفران ليس مفيدا فقط للقلب ولمحاربة السرطان، بل لبؤبؤ العين ونمو أغشيتها، ومنشط للأعصاب وإدرار الطمث عند المرأة وتخفيض ضغط الدم وعسر الهضم.
رغم أن رائحة الزعفران قريبة إلى طعم العسل المعدني، كما يصفها بعض الذواقة، مع قليل من رائحة القش أو العشب الخفيف المرارة بشكل عام، فإن الناس دأبوا ومنذ زمن طويل على استخدام الزعفران لتلوين الطعام باللون الأصفر البرتقالي الجميل، مثل اليخنات والمشروبات والأرز وغيره من الحلويات وبعض الأنواع الأخرى كما هو الحال مع الكركم (العقدة الصفراء - turmeric). ولهذا السبب أحيانا يستخدم الناس العصفر (Safflower) أحيانا بدلا منه لتلوين الأطعمة. ويعرف العصفر على أنه زعفران برتغالي ويطلق اسم «عصافروه» (assafroa) وعلى الأرجح «عصفورة». وقد استخدمه الفراعنة في صبغ الأقمشة والملابس الملوكية الحريرية، كما تبين من قبر توت عنخ آمون. ويعود ذلك في الأصل إلى مادتي «الكروسين»، و«الكوستين» المسؤولتين عن التلوين. ومع هذا فإن الكثير من الناس يجدون رائحة الزعفران رائحة عطرية قوية ومنعشة، وطعمه مميز لا يجد مثيلا له بين الأعشاب والنباتات.
لكن كالكثير من الأعشاب والنباتات الهامة، أحب الناس الزعفران واستخدموه لأسباب طبية وعلاجية عبر التاريخ، وخصوصا في المناطق التي يستخدم فيها بكثرة، وهي بالدرجة الأولى إيران، ومعظم الدول العربية وبعض دول آسيا الوسطى والهند وتركيا وأوروبا. فالزعفران قادر على قمع السرطان في بداياته ويمنع تكاثر بعض الخلايا، وحماية العين. ويزرع الزعفران الذي لا يزال يستخدم منذ قديم أزمان أيضا في الصين والهند لإنتاج العطور وصبغ الأقمشة، في منطقة البحر المتوسط حتى جبال كشمير شرقا. وحسب الأرقام الأخيرة المتوفرة فإن العالم ينتج سنويا 300 طن فقط لا غير. ومعظمها يأتي من إيران، وإسبانيا، والهند، واليونان، والمغرب، وأذربيجان، وإيطاليا بالطبع، التي تعطيه أهمية خاصة منذ أيام الرومان. ولهذا يعتبر الزعفران من أغلى النباتات وأندرها في العالم. والسبب في ذلك أن ما يستخدم من الزعفران هو الميسم، أو ما يمكن وصفه بورقات الزهرة الرقيقة التي تستخدم في تلقيح النبتة، وتعتبر عمليات قلعها وجمعها عملية دقيقة قبل تجفيفها ببطء (رغم أنها تجف بسرعة بعد القطاف). ويحتاج الفرد ما بين 110 آلاف إلى 170 ألف زهرة لتحصيل كيلو واحد من الزعفران. ويحتاج ذلك أيضا إلى 40 ساعة من العمل المتواصل. ولهذا لا يقل سعر الكيلو في الأسواق عن 1500 دولار. ويفضل عادة أن يكون رطبا نسبيا وذا لون داكن.
وتعرف من أنواعه الكثيرة النوع الإسباني المعروف بـ«كريم» (Creme) أو الزبد، وهو من الأنواع اللطيفة وغير القوية على صعيد اللون والطعم والرائحة. ورغم أن النوع الإيطالي أقوى نسبيا منه، فإن أهم وأقوى الأنواع على الإطلاق هي الإيرانية. ولأن هناك دائما نقاشا حول مراتبه وأنواعه وما هو الفاخر منه وما هو التجاري، منعت الهند منذ فترة طويلة تصدير الأنواع الممتازة والفاخرة إلى الخارج، ولا يعثر الفرد في الأسواق التجارية العادية إلى على الأنواع البريطانية والهولندية والسويسرية والأميركية والنيوزيلندية. ومن أنواع الفاخرة المعروفة في أوروبا وأميركا نوع «أكيلا» (Aquila) الغني بمادة «الكروسين». ولا يزرع هذا النوع إلى منطقة صغيرة لا تتعدى مساحتها الـ8 هكتارات في وادي نافيلي في إقليم ابروزو في إيطاليا الذي يطلق على عاصمته اسم «لا اكولا».
ومع هذا فإن زراعة الزعفران في إيطاليا على نطاق واسع تتم في جزيرة سردينيا التي تسخر له ما لا يقل عن 60 هكتارا. وتنتج سردينيا أو منطقة سان غافينو مونريال عادة 60 في المائة من الزعفران الإيطالي. ومن الأنواع الفاخرة والقوية أيضا النوع الكشميري المعروف باسم «مونغرا» (Mongra)، وهو من أكثر أنواع الزعفران دكنة في اللون مع طيف ليلكي، مما يدل على قوته وطيب طعمه. ويصعب جدا الحصول على هذا النوع بسبب ارتفاع سعره وتحريم الهند تصديره، والأهم من ذلك صعوبة تحصيله على الدوام في ظل التغيرات البيئية والجوية في كشمير، وعلى رأسها الجفاف.
استخدمته كليوبترا في حمامها.. والرومان في علاجاتهم
اسهم المسلمون في نشر الزعفران في ايطاليا وفرنسا واسبانيا (رويترز)
لندن: كمال قدورة
الزعفران من النباتات الجميلة والرقيقة التي تكن لها الشعوب مكانة خاصة في قاموسها المطبخي والطبي والجمالي منذ قديم الزمان. والنبتة نفسها من أجمل النباتات البصلية التي لا تنمو بأكثر من 40 سنتيمترا. وعادة ما تكون أوراقها دقيقة ونحيفة ومطرزة بالأبيض وأزهارها ليلكية وزهرية أحيانا ذات المياسم الخمرية البنية الحمراء الداكنة والمتميزة مع بعض الاصفرار أحيانا. وهناك منه أنواع كثيرة لا تستغل لغايات الأكل، تستخدم لصناعة باقات الورد التي يتبادلها العشاق في بداية فصل الربيع من كل عام. وعلى صغر النبتة وروعتها جماليا، أصبحت مع الأيام من أغلى النباتات في العالم. علميا يقال إن الزعفران (Saffron) من النباتات البصلية من الفصيلة السوسنية، ويطلق على النوع المستخدم نباتيا وعلميا اسم «Crocus sativus»، ويعود أصل الاسم الإنجليزي إلى اللاتينية «سفرانوم» (safranum) التي أخذته عن الفرنسية القديمة في القرن الثاني عشر وخصوصا كلمة «سفران» (safran). والاسم الإيطالي «زفارانو» (zafferano) أيضا تدرج من الفرنسية القديمة، كما هو حال الاسم الإسباني «أزافران» (azafran). والأصل الفرنسي يعود بالطبع إلى اللغة الفارسية «زفاران» (zaferan) الذي جاء من العربية «زعفران» (zafaran) على الأرجح، ومن كلمة «أصفر» (asfar) بالتحديد. تاريخيا تشير المعلومات المتوفرة بأن زراعة الزعفران حول العالم بدأت قبل 3 آلاف سنة، وكان يستخدم للزراعة النوع المعروف بـ«كروكوس كارترايتيانوس» (Crocus cartwrightianus) خصوصا في العصر البرونزي، وقد عمل الفلاحون عبر العصور على تأصيل الأنواع الطويلة المياسم منه. وتعود أولى المدونات المكتوبة التي تذكر الزعفران إلى القرن السابع قبل الميلاد، كما تؤكد الموسوعة الحرة. وتعود هذه المدونات إلى العراق القديم وأيام الآشوريين والسومريين، وبالتحديد الملك آشور بانبال. إلا أن الحفريات الأخيرة أشارت أيضا إلى أن الناس استخدموا الزعفران قبل 4 آلاف سنة لمعالجة 90 مرضا، كما يبدو. وعثر علماء الآثار أيضا على آثار لصبغيات الزعفران في العراق يعود تاريخها إلى 50 ألف سنة. كما بدأت عملية الإتجار به أيضا إلى ما قبل الحضارة المانوية. كما اهتم به الفرس وأهل إيران منذ القرن العاشر قبل الميلاد، زراعة وتأصيلا واستخداما، وخصوصا في مناطق أصفهان وديربينا وخراسان. وكان الإيرانيون يستخدمون مياسم الزعفران في حياكة بعض الألبسة الخاصة بالعائلة المالكة والأغنياء. وفضلا عن استخدام الإيرانيين له في الطبابة والتلوين والعطور والتطهير والغسيل، فقد دأبوا على نثره على الأسرّة وغليه في الشاي لإبعاد الاكتئاب وحالات الحزن. وقد أخذ الإسكندر المقدوني بعد مروره على إيران قديما معظم العادات والتقاليد الإيرانية في استخدام الزعفران، فوضعه في حمامه واستخدمه مع الأرز ولتنشيط وضعه الجنسي.. إلخ. ومن هناك ورثت اليونان الزعفران من إيران كنبتة وكتقاليد. كما جاء الزعفران الكشميري الشهير من إيران كما يبدو من الوثائق قبل ألف أو 2500 سنة. وبالذات خلال الوجود الفارسي في كشمير. وبعد ذلك بدأ الفينيقيون بترويج الزعفران الكشميري والإتجار به كمادة للتلوين وطرد الاكتئاب. ومن ذلك الحين انتشر الزعفران في الكثير من مناطق العالم واستخدم للكثير من الغايات، كما سبق وذكرنا. ومن هذه المناطق بالطبع الهند والصين. فقد أحب الرهبان البوذيون الزعفران وأصبح جزءا من تقاليدهم. ورغم أن الوثائق الصينية القديمة الخاصة بالأعشاب مثل «Shennong Bencaojing» التي ذكرت الزعفران، فإن المؤرخين يعتقدون أن الزعفران جاء إلى الصين قبل ذلك بكثير، وربما مع المغول الذين جلبوه من إيران. وفي اليونان القديم، عرفه الإغريق أيام الحضارة المانوية التي عزت الزعفران وأعطته مكانة عالية في مراتب النبات في القرن السادس عشر قبل الميلاد. وجاء الزعفران في الخرافات الإغريقية، وتقول بعضها إن الناس كانوا يبحرون إلى صقلية خصيصا لجلب الزعفران. ويقال إن الزعفران استخدم في غزة ومصر وجزيرة رودس قديما لغايات التعطير والتجميل والتطبيب. ومقابل الاستخدام الفرعوني المكثف له، واستخدام كليوبترا له في حمامها، ولمعالجة الكثير من الأمراض، استخدمه الفينيقيون في لبنان وفلسطين والمناطق المجاورة، وفي مدينتي صيدا وصور في لبنان بالتحديد للصباغة. ولم ينس الرومان الزعفران أيضا حيث استخدموه لتضميد الجراح وعلاج السعال، وأخذ الرومان معهم الزعفران إلى ما كان يعرف بغول (فرنسا وبعض بلجيكا وألمانيا وسويسرا)، حيث استغلوه أفضل استغلال حتى سقوط روما. وتشير بعض المعلومات إلى أن الفرنسيين أيضا أخذوا الزعفران عن طريق الأندلس، وأن المسلمين أسهموا في نشر الزعفران في كل من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. وكان الزعفران من المواد المهمة التي تاجرت بها إمبراطوريات المتوسط منذ بداية تاريخها، وسبب هذا العشب الطيب حربا طاحنة لأكثر من 3 أشهر ونصف الشهر بين جمهوريات المدن الإيطالية السابقة كجنوا وبيزا والبندقية. وبعد تعذر الحصول عليه عبر اليونان وإيطاليا بدأت زراعته تنتشر في سويسرا وألمانيا، حيث كانت عقوبة الغش فيه السجن والإعدام. من هناك انتشر إلى إنجلترا واهتمت به منطقتا سوفيك ونوفيك الشرقيتين. واختصت إحدى البلدات الإنجليزية بالزعفران في القرنين السادس والسابع عشر بالعناية بالزعفران وإنتاج الأدوية والأصباغ منه لدرجة أن حملت اسمه وصار يطلق عليها «سفرون وولدن» (Saffron Walden). ويبدو أن الكنيسة الأوروبية نقلت الزعفران من أوروبا إلى أميركا، حيث انتشر أول ما انتشر في بنسلفانيا، ومن ثم إلى الكاريبي والمستعمرات الإسبانية. ويقال إن لشدة الطلب على الزعفران كان يعتبر تجاريا بقيمة الذهب في ولاية فيلادلفيا. وذكر ابن سينا الزعفران في كتاب «القانون في الطب» قائلا: «زهره يشبه زهرة الياسمين، منه أصفر ومنه ما يميل إلى البياض، جيده الطري الحسن اللون الذكي الرائحة، على شغره قليل بياض غير كثير، ممتلئ غير صحيح، غير سريع للصبغ غير ملزج ولا مفتت، قابض محلل. قال غالينوس حرارته أقوى من قبضه، ودهنه مسخن يحسن اللون، شربه محلل للأورام ويطلى به الحمرة، مصدع يضر الرأس وهو منوم للحواس إذا سقي في الشراب، ينفع من الورم الحار في الأذن، يجلو البصر وينفع من الغشاوة، يكتحل به للزرقة المكتسبة في الأمراض، مقوٍ للقلب». أما ابن البيطار فقد نصح باستخدام الزعفران مع البيض لعلاج البواسير ورطوبات العين وتقوية وتحسين لون البشرة. ويبدو أن الزعفران ليس مفيدا فقط للقلب ولمحاربة السرطان، بل لبؤبؤ العين ونمو أغشيتها، ومنشط للأعصاب وإدرار الطمث عند المرأة وتخفيض ضغط الدم وعسر الهضم.
رغم أن رائحة الزعفران قريبة إلى طعم العسل المعدني، كما يصفها بعض الذواقة، مع قليل من رائحة القش أو العشب الخفيف المرارة بشكل عام، فإن الناس دأبوا ومنذ زمن طويل على استخدام الزعفران لتلوين الطعام باللون الأصفر البرتقالي الجميل، مثل اليخنات والمشروبات والأرز وغيره من الحلويات وبعض الأنواع الأخرى كما هو الحال مع الكركم (العقدة الصفراء - turmeric). ولهذا السبب أحيانا يستخدم الناس العصفر (Safflower) أحيانا بدلا منه لتلوين الأطعمة. ويعرف العصفر على أنه زعفران برتغالي ويطلق اسم «عصافروه» (assafroa) وعلى الأرجح «عصفورة». وقد استخدمه الفراعنة في صبغ الأقمشة والملابس الملوكية الحريرية، كما تبين من قبر توت عنخ آمون. ويعود ذلك في الأصل إلى مادتي «الكروسين»، و«الكوستين» المسؤولتين عن التلوين. ومع هذا فإن الكثير من الناس يجدون رائحة الزعفران رائحة عطرية قوية ومنعشة، وطعمه مميز لا يجد مثيلا له بين الأعشاب والنباتات.
لكن كالكثير من الأعشاب والنباتات الهامة، أحب الناس الزعفران واستخدموه لأسباب طبية وعلاجية عبر التاريخ، وخصوصا في المناطق التي يستخدم فيها بكثرة، وهي بالدرجة الأولى إيران، ومعظم الدول العربية وبعض دول آسيا الوسطى والهند وتركيا وأوروبا. فالزعفران قادر على قمع السرطان في بداياته ويمنع تكاثر بعض الخلايا، وحماية العين. ويزرع الزعفران الذي لا يزال يستخدم منذ قديم أزمان أيضا في الصين والهند لإنتاج العطور وصبغ الأقمشة، في منطقة البحر المتوسط حتى جبال كشمير شرقا. وحسب الأرقام الأخيرة المتوفرة فإن العالم ينتج سنويا 300 طن فقط لا غير. ومعظمها يأتي من إيران، وإسبانيا، والهند، واليونان، والمغرب، وأذربيجان، وإيطاليا بالطبع، التي تعطيه أهمية خاصة منذ أيام الرومان. ولهذا يعتبر الزعفران من أغلى النباتات وأندرها في العالم. والسبب في ذلك أن ما يستخدم من الزعفران هو الميسم، أو ما يمكن وصفه بورقات الزهرة الرقيقة التي تستخدم في تلقيح النبتة، وتعتبر عمليات قلعها وجمعها عملية دقيقة قبل تجفيفها ببطء (رغم أنها تجف بسرعة بعد القطاف). ويحتاج الفرد ما بين 110 آلاف إلى 170 ألف زهرة لتحصيل كيلو واحد من الزعفران. ويحتاج ذلك أيضا إلى 40 ساعة من العمل المتواصل. ولهذا لا يقل سعر الكيلو في الأسواق عن 1500 دولار. ويفضل عادة أن يكون رطبا نسبيا وذا لون داكن.
وتعرف من أنواعه الكثيرة النوع الإسباني المعروف بـ«كريم» (Creme) أو الزبد، وهو من الأنواع اللطيفة وغير القوية على صعيد اللون والطعم والرائحة. ورغم أن النوع الإيطالي أقوى نسبيا منه، فإن أهم وأقوى الأنواع على الإطلاق هي الإيرانية. ولأن هناك دائما نقاشا حول مراتبه وأنواعه وما هو الفاخر منه وما هو التجاري، منعت الهند منذ فترة طويلة تصدير الأنواع الممتازة والفاخرة إلى الخارج، ولا يعثر الفرد في الأسواق التجارية العادية إلى على الأنواع البريطانية والهولندية والسويسرية والأميركية والنيوزيلندية. ومن أنواع الفاخرة المعروفة في أوروبا وأميركا نوع «أكيلا» (Aquila) الغني بمادة «الكروسين». ولا يزرع هذا النوع إلى منطقة صغيرة لا تتعدى مساحتها الـ8 هكتارات في وادي نافيلي في إقليم ابروزو في إيطاليا الذي يطلق على عاصمته اسم «لا اكولا».
ومع هذا فإن زراعة الزعفران في إيطاليا على نطاق واسع تتم في جزيرة سردينيا التي تسخر له ما لا يقل عن 60 هكتارا. وتنتج سردينيا أو منطقة سان غافينو مونريال عادة 60 في المائة من الزعفران الإيطالي. ومن الأنواع الفاخرة والقوية أيضا النوع الكشميري المعروف باسم «مونغرا» (Mongra)، وهو من أكثر أنواع الزعفران دكنة في اللون مع طيف ليلكي، مما يدل على قوته وطيب طعمه. ويصعب جدا الحصول على هذا النوع بسبب ارتفاع سعره وتحريم الهند تصديره، والأهم من ذلك صعوبة تحصيله على الدوام في ظل التغيرات البيئية والجوية في كشمير، وعلى رأسها الجفاف.